للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلَا فِي مِنْهَاجِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَلَا فِي تَرْبِيَتِهِ وَتَأْدِيبِهِ، وَلَا فِي تَأْثِيرِهِ فِيمَا يَحْمَدُهُ وَيُرَغِّبُ فِيهِ، وَلَا فِيمَا يَذُمُّهُ وَيَزْجُرُ عَنْهُ، فِيهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَطْهِيرِهَا عَقْلًا وَنَفْسًا وَخُلُقًا، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا تَصْنِيفًا وَوَصْفًا، فَمَنْ تَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَتَدَبَّرَهُ، وَجَدَ كُلَّ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَخَيْرٍ وَفَضِيلَةٍ، وَبَرٍّ وَمَكْرَمَةٍ، حَاضِرًا فِي نَفْسِهِ، وَكُلَّ جَهْلٍ وَشَرٍّ كَانَ مُلْتَاثًا بِهِ أَوْ عُرْضَةً لَهُ كَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِزًا كَثِيفًا،

أَوْ أَمَدًا بَعِيدًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ فِي سُوَرِهِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِعَنَاوِينِهِ كَمَا يَجِدُهُ فِي أَبْوَابِ الْكُتُبِ الَّتِي صَنَّفَهَا عُلَمَاءُ الْبَشَرِ وَفُصُولِهَا، فَمَقَاصِدُهُ وَمَعَانِيهِ مَمْزُوجٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ سُوَرِهِ، طُوَالِهَا وَقِصَارِهَا، بَلْ فِي جُمْلَةِ آيَاتِهِ مِنْهَا، لِأَجْلِ أَنَّهُ يُرَتَّلُ بِنَغَمِهِ اللَّائِقِ بِهِ تَرْتِيلًا، وَيُتَعَبَّدُ بِتَدَبُّرِ مَا فَصَّلَهُ مِنْ آيَاتِهِ تَفْصِيلًا، فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا عَهِدَهُ الْبَشَرُ وَعَرَفُوهُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَهِدَايَةً وَتَأْثِيرًا، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مُقْتَبَسًا مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا سِيَّمَا إِجْمَالُ كُلِّ سُورَةٍ فُسِّرَتْ فِيهِ بَعْدَ تَفْصِيلٍ. وَتَأَمَّلْهُ فِي فَصْلَيْ هَذَا الْبَابِ، وَمَا هُوَ بِبِدْعٍ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَابِ.

يَقْرَأُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَا يَكَادُونَ يَفْطِنُونَ لِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ فَضَائِلِ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَجِبُ التَّأَسِّي بِهَا، وَمَسَاوِئِ الْكُفَّارِ الَّتِي يَجِبُ تَطْهِيرُ الْأَنْفُسِ مِنْهَا، فَمَنْ قَرَأَ مِنْهُمْ تَفْسِيرَهَا فِي أَكْثَرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ كَانَتْ أَشْغَلَ شَاغِلٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَبَاحِثِ الْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمُجَادَلَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْأَسَاطِيرِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ. وَمَنْ يَهُمُّهُ الْعِلْمُ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى تَهْذِيبِ نَفْسِهِ صَارَ يَطْلُبُهُ مِنْ كُتُبِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَدَبِ وَالتَّصَوُّفِ دُونَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي قَلَبَ طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا وَزَكَّى أَنْفُسَهَا وَسَوَّدَهَا عَلَى بَدْوِ الْعَالَمِ وَحَضَرِهِ مُنْذُ الْجِيلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِسْلَامِهَا، إِلَى أَنْ أَعْرَضُوا عَنْ هِدَايَتِهِ وَأَدَبِهِ اشْتِغَالًا بِفَلْسَفَةِ الشُّعُوبِيَّةِ وَآدَابِهَا، أَوْ تَنَازُعًا فِي زِينَةِ الدُّنْيَا وَسُلْطَانِهَا، فَكَانُوا يَبْعُدُونَ عَنِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالسِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ بِقَدْرِ مَا يَبْعُدُونَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا.

إِنَّنِي بَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ تَفْسِيرَ السُّورَةِ وَنَشَرْتُهُ وَشَرَعْتُ فِي كِتَابَةِ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ تَأَمَّلْتُ السُّورَةَ فِي الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ وَحْدَهُ، فَوَقَفْتُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْهَا أَطْوَلَ مِنْ وَقَفَاتِي فِيمَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَبْوَابِ، فَرَأَيْتُ فِي تَضَاعِيفِ الْآيَاتِ مِنْ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَاتِحَتِهَا وَخَاتِمَتِهَا، وَمِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ فِي وَسَطِهَا، عِشْرِينَ مَسْأَلَةً أَوْ أَكْثَرَ فِي عَقَائِلِ الْفَضَائِلِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَمِثْلَهَا فِي فَسَادِ النَّفْسِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَاجْتِنَابِ الْهُدَى، بَعْضُهَا يَخُصُّ الْعَقْلَ وَالْفَهْمَ، وَالْعِلْمَ وَالْجَهْلَ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْخَلْقَ وَالْعَادَةَ وَالْأَعْمَالَ ; لِهَذَا جَعَلْتُ هَذَا الْبَابَ فِي فَصْلَيْنِ أَسْرُدُ فِيهِمَا مَا لَاحَ الْآنَ لِفَهْمِي مِنْهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>