وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ تَأَوَّلُوهُ لِمُوَافَقَةِ الْمُقَرَّرِ فِي الْعَقَائِدِ مِنْ أَنَّ خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ مَعَارَضٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّرِيحَةِ فِي سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ وَعَدْلِهِ، وَكَوْنِ الْعِقَابِ عِنْدَهُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ظُلْمٌ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَقْلًا وَنَقْلًا، وَكُنْتُ وَعَدْتُ بِأَنْ أَذْكُرَ هُنَا كُلَّ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْآنَ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ وَجَّهْتُ تَفْسِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا يَجْمَعُ بَيْنَ النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ الظَّاهِرِ وَمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ١٢٧ ص ٥٤ - ٨٦ ج٨ تَفْسِير ط الْهَيْئَةِ) وَهُوَ مَا بَسَطَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ دَلَائِلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ - تَعَالَى - أَوْسَعُ وَأَكْمَلُ، وَإِرَادَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَلَا يُقَيِّدُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِمَا إِلَّا عِلْمُهُ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذَا الْمَوْضُوعِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَاضِي الشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْقَدِيرِ) وَتَبِعَهُ السَّيِّدُ حَسَن صِدِّيق خَان فِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْبَيَانِ) فَلْيُرَاجِعْهُمَا مَنْ شَاءَ.
الْبَابُ الْخَامِسُ:
(فِي صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ الْأَعْمَالِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَفِيهِ فَصْلَانِ) :
مُقَدِّمَةٌ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ:
لِلْحُكَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْأُدَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ مَنَاهِجُ وَأَسَالِيبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَالْعَادَاتِ حُسْنِهَا وَقَبِيحِهَا، كَمَا تَرَاهُ فِي كُتُبِ أَهْلِهَا مِنْ فَلْسَفَةٍ وَحِكَمٍ، وَأَدَبٍ وَتَرْبِيَةٍ، وَحِكَايَاتٍ تَمْثِيلِيَّةٍ لِوَقَائِعَ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ أَوْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْحَيَوَانِ، أَوْ خُرَافَاتِ الشَّيَاطِينِ وَالْجَانِّ، تَبَارَى فِي تَصْنِيفِهَا عُلَمَاءُ الشُّعُوبِ فِي عَهْدِ حَضَارَةِ كُلٍّ مِنْهَا، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا فَوَائِدُ لِقُرَّائِهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَأَخْطَاءٌ يُنْكِرُهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ تَهْتَدِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ بِكِتَابٍ مِنْهَا كَمَا اهْتَدَى أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ فِي دِينِهِمْ.
وَعِنْدَ الْأُمَمِ الْمُتَدَيِّنَةِ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ فِي أُصُولِ أَدْيَانِهَا وَآدَابِهَا يُعَزَّى بَعْضُهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَبَعْضُهَا إِلَى مَوَاعِظِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ سَلَفِهَا، وَأَعْلَاهَا الْأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُوِيَتْ مَنْثُورَةً مُتَفَرِّقَةً، ثُمَّ جُمِعَتْ فِي دَوَاوِينَ مُرَتَّبَةٍ، فَمَا تَجِدُ مِنْ خَيْرٍ وَفَضِيلَةٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ فَهُوَ مِنْ تَأْثِيرِ اتِّبَاعِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَمَا حَفِظُوا وَفَقِهُوا مِنْهَا، وَمَا تَجِدُ مِنْ شَرٍّ وَبَاطِلٍ فَهُوَ مِنْ فَلْسَفَةِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَإِضْلَالِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْهَا، أَوْ تَحْرِيفِهِمْ لَهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute