للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَعَدَمِ إِغْنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ دَلِيلُ التَّوْحِيدِ، وَبِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِذْ عَادَ الْكَلَامُ كَمَا بَدَأَ فِي إِنْذَارِ مُشْرِكِي أُمِّ الْقُرَى وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُمْتَازَةِ: - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ - ١٠٣ الْآيَاتِ - وَلَمَّا بَيَّنَ فِيهَا جَزَاءَ كُلٍّ مِنْ فَرِيقِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ وَخُلُودَهُمْ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ، اسْتَثْنَى بَعْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِثْنَاءً لَمْ يَسْبِقْ لَهُ فِيمَا قَبْلَهُ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ نَظِيرٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي أَهْلِ النَّارِ: - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ - ١٠٧ وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ - ١٠٨.

حَارَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّفْرِقَةِ فِيهِ بَيْنَ الدَّارَيْنِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْآثَارِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ ; لِتَعَارُضِهِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي خُلُودِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَأْكِيدِ بَعْضِهَا بِكَلِمَةِ التَّأْيِيدِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، حَتَّى فِي الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (٤: ٥٦ مَعَ ٥٧ و١٢١ مَعَ ١٢٢) وَفِي سُورَةِ التَّغَابُنِ (٦٤: ٩ مَعَ ١٠) وَفِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ (٩٨: ٦ مَعَ ٨) فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُؤَكِّدُ خُلُودَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ بِالتَّأْيِيدِ دُونَ خُلُودِ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ، كَمَا يُؤَكِّدُهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ سُوَرٍ: كَالنِّسَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالْمَائِدَةِ وَالطَّلَاقِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ.

وَمَثَلُ هَذِهِ الْفُرُوقِ لَا تَأْتِي فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ جُزَافًا أَوْ عَبَثًا أَوْ عَنْ غَفْلَةٍ كَكَلَامِ الْبَشَرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا حِكْمَةٌ فِي التَّشْرِيعِ، وَنُكْتَةٌ فِي بَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ، وَلَا يَقْدِرُ

عَلَى الْغَوْصِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْخِضَمِّ وَاسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِ هَذِهِ الدُّرَرِ مِنْهُ إِلَّا الْجَامِعُ بَيْنَ أَسْرَارِ الْعِلْمَيْنِ - عِلْمِ حِكَمِ التَّشْرِيعِ وَعِلْمِ أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ - وَلَقَدْ كَانَ أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُمَا فِي ذَاتِهِمَا، وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْجَزَاءِ بِالْفَضْلِ فَوْقَ الْعَدْلِ الَّذِي يُضَاعَفُ مِنْ عَشَرَةِ أَضْعَافٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالْجَزَاءِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ الَّذِي لَا يَظْلِمُ فِيهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَمَا فَوْقَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ يَقِفُ فِي طَرِيقِ هَذَا الْفَهْمِ عَلَى وُضُوحِهِ أَنَّ التَّأْيِيدَ أَكَّدَ بِهِ جَزَاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (٤١: ١٦٧ - ١٦٩) وَجَزَاءَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ٣٣: ٥٧ و٦٤) وَجَزَاءَ الْعُصَاةِ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: - وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - ٧٢: ٢٣ وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي جَعْلَ الْعِصْيَانِ هُنَا عَامًّا شَامِلًا لِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِمَعْنَى الشِّرْكِ.

عَلَى أَنَّنَا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْخُلُودِ وَالتَّأْيِيدِ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيَّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ لَفْظٌ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْيِيدِ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ النِّهَايَةِ فِي الْوُجُودِ وَإِنْ قُدِّرَتْ بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ وَمَا لَا يُحْصَى مِنَ السِّنِينَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>