للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي تَبْلِيغِهِمْ لَهُ وَهِدَايَتِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَضَلَالِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ - أَنَّهَا دَلَائِلُ وَاضِحَةٌ عَلَى رِسَالَةِ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْجَازِ كِتَابِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ، وَوُجُوهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا كَثِيرَةٌ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ وَتَارِيخِيَّةٍ وَغَيْبِيَّةٍ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا فِي " كِتَابِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ " تَفْصِيلًا.

(الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ) :

آيَاتُ الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَإِزَالَةِ اسْتِبْعَادِهِمْ لَهُ وَتَقْرِيبِهِ إِلَى إِدْرَاكِهِمْ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ.

(وَالثَّانِي) لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَالْجَزَاءُ قِسْمَانِ أَيْضًا: جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ، وَجَزَاءُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ الْمُجْرِمِينَ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بِقِسْمَيْهِ أَلْوَانٌ مِنَ الْبَيَانِ الرَّائِعِ الْعَجِيبِ، وَأَسَالِيبُ فِي التَّعْبِيرِ الْبَلِيغِ، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ وَالْقِسْمَيْنِ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمَا وَالْخِطَابِ بِهِمَا بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالْآيَاتِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَأْثِيرُهُ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، يَجْعَلُ التَّكْرَارَ الضَّرُورِيَّ لِتَثْبِيتِ الْمَعَانِي فِي النَّفْسِ غَيْرَ مُمِلٍّ لِلسَّمْعِ، وَلَا مُسْئِمٍ لِلطَّبْعِ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ مَا يَمْتَازُ بِهِ كَلَامُ الرَّبِّ الْمُعْجِزُ عَلَى كَلَامِ خَلْقِهِ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَتَدَبَّرْهُ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ كَبِيرٍ: - إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - ٤ ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَكَرِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَ الْعُقَلَاءَ الْمُخَاطَبِينَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: - وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ - ٧ فَالْآيَتَانِ مَنْ نَوْعِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَعًا بِأَنَّ الْخَالِقَ الْقَدِيرَ، ذَا الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ، لَا تَظْهَرُ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ، وَسِرُّ حِكْمَتِهِ فِي تَقْدِيرِهِ، إِلَّا بِاخْتِبَارِ عِبَادِهِ الَّذِينَ وَهَبَهُمُ الْعَقْلَ وَالتَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ، الَّذِي تَتَجَلَّى بِهِ الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ، وَالْبَاطِلُ الْعَبَثُ بِخُلُوِّهَا مِنْهُ، وَبِالْجَزَاءِ عَلَى مَا يَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَحَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَهَذَا الْجَزَاءُ لَا يَكُونُ تَامًّا عَامًّا لِلْأَفْرَادِ فِي الدُّنْيَا لِقِصَرِ أَعْمَالِهِمْ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةٍ ثَانِيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ يَدُلُّ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهَا.

وَإِنَّ مَا بَعْدَ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ فِي رِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَكَرَّرَ فِيهِ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا أَكْثَرَ جِدَالًا مِنْ كُلِّ قَوْمٍ فِي الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَتَرَى بَعْدَهَا كُلَّ جِدَالِ نُوحٍ وَصَالِحٍ لِقَوْمِهِ فِي عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ دُونَ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ، وَزَادَ شُعَيْبٌ مَسْأَلَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَانْحَصَرَ إِنْذَارُ لُوطٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، ثُمَّ خَتَمَ اللهُ الْعِبْرَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ بِهَلَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا

<<  <  ج: ص:  >  >>