للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عُلَمَاءِ الْمُوَلِّدِينَ، فَصَارُوا يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِقَوَاعِدِ الْفُنُونِ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلُّغَةِ وَلِلدِّينِ بِقَدْرِ مَعَارِفِهِمُ الْمَمْزُوجَةِ بِمَا وَرِثُوا وَمَا كَسَبُوا مِنَ الشُّعُوبِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ مِمَّا دَوَّنَهُ أَحَدٌ، فَلِهَذَا لَا نَرَى فِي تَفَاسِيرِهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ الْخَاصَّةِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، بَلْ تَنَكَّبُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ فِيهَا فَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ مَا نَشْكُو مِنْهُ وَنُحَاوِلُ تَلَافِيَهُ.

(الشَّاهِدُ السَّادِسَ عَشَرَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ) :

تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (١١٨ و١١٩) (١) بَيَانَ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي اخْتِلَافِ الْأُمَمِ فِي الدِّينِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّكْوِينِ وَالْعُقُولِ وَالْفُهُومِ، وَحِكْمَةُ جَعْلِهَا فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ: أَنَّهَا أَهَمُّ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْمَلُ هِدَايَةً وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ، لِتَكُونَ كَافِلَةً كَافِيَةً لَهُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَا قَبْلَهَا كُلُّهُ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْمُبَيِّنَةِ لِأَسْبَابِ فَسَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ الْقُرْآنُ لِاتِّقَائِهَا، فَهُوَ جَامِعٌ لِوَصْفِ أَمْرَاضِ الْبَشَرِ كُلِّهَا وَلِوَصْفِ عِلَاجِهَا، فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ الصُّغْرَى (الْبُيُوتِ وَالْفَصَائِلِ وَالْعَشَائِرِ) وَالْكُبْرَى (الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ) عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَلِمَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ، وَالْهَلَاكُ حَتْمًا، وَإِنَّمَا يَنْحَصِرُ الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا التَّرْكُ إِذَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَخَطْبُهُ سَهْلٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ جَهَلَهُ بِالْحُكْمِ خَالَفَهُ وَدَوَاؤُهُ التَّعْلِيمُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فَسَادِ تَرْبِيَتِهِ وَدَوَاؤُهُ النَّصِيحَةُ وَالْإِرْشَادُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْرُوضٌ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ النَّصِيحَةَ بِالْقَوْلِ فَعِلَاجُهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ حُكُومَتِهِمْ مَعْرُوفٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ التَّرْكُ مِنَ الْجَمَاعَاتِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ لِلْجَهْلِ أَوْ لِأَسْبَابٍ مَالِيَّةٍ أَوْ عَدَاوَةٍ شَخْصِيَّةٍ، أَوْ عَصَبِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، عِلَاجُ كُلِّ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ.

وَإِنَّمَا الْبَلَاءُ الْأَكْبَرُ وَالْمَوْتُ الْأَحْمَرُ وَالْخَطَرُ الْأَسْوَدُ الْمُظْلِمُ فَهُوَ اخْتِلَافُ الشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ فِي الدِّينِ، وَالزَّيْغُ عَنِ الْقُرْآنِ بِاتِّبَاعِ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ

تَأْوِيلِهِ، فَهَذَا الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِحِرْمَانِ أَهْلِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ١١٨ و١١٩ وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاخْتَصَّهُمْ بِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ فِي رَحْمَتِهِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ٩: ١١٧، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ٣٣: ٤٣ وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَحْمَتِهِ بِكِتَابِهِ الْأَخِيرِ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ وَأَتَمَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَتَهُ، كَقَوْلِهِ فِيهِ: وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ١٠: ٥٧ وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَحْمَتِهِ بِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ وَصْفُهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ٩: ١٢٨ فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ الْأَوَّلِ الْآخَرِ، وَبِكِتَابِهِ الْأَخِيرِ وَبِنَبِيِّهِ الْخَاتَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَتِمُّ لِأَفْرَادِهِمْ إِلَّا بِتَمَامِ الِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَا كَلَّفُوهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>