للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمَالُ وَهُوَ الْمَعْبُودُ الْأَكْبَرُ لِأَمْثَالِهَا فِي بِلَادِهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى نَقْضِ عَهْدِهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْخُلْوَةِ وَذَلِكَ التَّجَرُّدِ بَيْنَ يَدَيْ مُصَوِّرِهَا، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَجْمَلِ الشَّبَابِ، وَأَبْرَعِهِنَّ فِي تَصَبِّي النِّسَاءِ، أَفَيَكْثُرُ أَوْ يُسْتَغْرَبُ فِي رَأْيِ أُولَئِكَ الرُّوَاةِ، أَنْ يَكُونَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي وِرَاثَتِهِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَمَقَامِ النُّبُوَّةِ عَنْ آبَائِهِ الْأَكْرَمِينَ، وَمَا اخْتَصَّهُ بِهِ رَبُّهُ وَكَوْنُهُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ مِنَ الْعِرْفَانِ وَالْإِحْسَانِ وَالِاصْطِفَاءِ، وَمَا صَرَفَ عَنْهُ مِنْ دَوَاعِي السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ شَهَادَةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا بِقَوْلِهَا: (وَلَقَدْ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) ٣٢ أَيِ اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةِ الْعِصْمَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ بِهِ صَوَاحِبُهَا مِنَ الْمُرَاوِدَاتِ مِنْ قَوْلِهِنَّ: (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ

مِنْ سُوءٍ) ٥١ أَيْ أَدْنَى شَيْءٍ سَيِّئٍ، ثُمَّ مَا أَيَّدَتْ بِهِ شَهَادَتَهُنَّ مِنْ قَوْلِهَا: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ٥١ أَيَكْثُرُ عَلَيْهِ أَوْ يُسْتَغْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَمْلَكَ لِنَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ الْإِبَاحِيَّةِ، أَوْ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الْهَمِّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَصَوَّرُوهُ بِشَرِّ مَا تَصَوَّرُوهُ، أَوْ بِمَا صَوَّرَهُ لَهُمْ مُضِلُّوهُمْ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ لِيُلَبِّسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَيُشَوِّهُوا بِهِ تَفْسِيرَ كَلَامِ رَبِّهِمْ؟ ثُمَّ يَكُونُ مُنْتَهَى شَوْطِ الْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَأَوَّلُوا تَفْسِيرَهُمْ تَأْوِيلًا، وَالْقُرْآنُ يَتَبَرَّأُ مِنْهُ بِلُغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَأَدَبِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَالْعِبْرَةُ الْمُرَاوَدَةُ مِنْهُ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ إِسْنَادُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وَضْعِهَا عَلَيْهِمْ، أَوْ تَصْدِيقِهِمْ لِقَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ فِيهَا إِلَّا بُطْلَانُ مَوْضُوعِهَا فِي نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي لَمْ يَعْلَمْ رَسُولُ اللهِ مِنْهَا غَيْرَ مَا قَصَّهُ اللهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَةِ (١٠٢) آخِرِهَا - لَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا مِنْ أَدِلَّةِ وَضْعِهَا غَيْرُ هَذَا لَكَفَى، فَكَيْفَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي لُغَتِهِ كَمُخَالَفَتِهَا لَهُ فِي هِدَايَتِهِ أَيْضًا!

رَدُّ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ هَمِّهَا وَهَمِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

فَأَنَا أَرُدُّ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فَسَّرُوا هَمَّ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا اخْتَرْتُهُ، لَا هَمُّهُ وَحْدَهُ، وَأَقُولُ: لَوْلَا الْغُرُورُ بِالرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ لَمْ يَخْطُرْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ غَيْرُهُ، أَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِعِبَارَةِ الْقُرْآنِ فِي مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ:

أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْهَمَّ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَعْمَالِ، لَا بِالشُّخُوصِ وَالْأَعْيَانِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُقَارَبَةُ فِعْلٍ تَعَارَضَ فِيهِ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي فَلَمْ يَقَعْ لِرُجْحَانِ الْمَانِعِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي التَّعَارُضِ الْأَعَمِّ، وَلَكِنَّ رُجْحَانَ الْمَانِعِ هُنَا قَدْ يَكُونُ بِإِرَادَةِ صَاحِبِ الْهَمِّ وَمِنْهُ هَمُّ يُوسُفَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ وَمِنْهُ هَمُّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ: كَانَ هَمُّهُمَا وَاحِدًا وَهُوَ الْبَطْشُ بِالضَّرْبِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَكَانَ الْمَانِعُ مِنْهُ إِرَادَتَهُ هُوَ وَعَجْزَهَا هِيَ بِهَرَبِهِ، وَهَاكَ الشَّوَاهِدُ عَلَى الْقِسْمَيْنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>