للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَكَى الله عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَنَّهُمْ مَكَرُوا بِالرَّسُولِ لِيُثْبِتُوهُ أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ، وَحَكَى عَنْهُمْ وَعَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّوْبَةِ أَنَّهُمْ (هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ) آيَةَ ١٣ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَلَدِهِ مَكَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا لِأَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَيَقْوَى أَمْرُهُ، فَرَجَّحُوا الْمَانِعَ بِإِرَادَتِهِمْ، وَحَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ (هَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) آيَةَ ٧٤ إِذْ حَاوَلُوا أَنْ

يُشْرِدُوا بِهِ بِعِيرَهُ فِي الْعَقَبَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمْ يَنَالُوا مُرَادَهُمْ عَجْزًا مِنْهُمْ وَحِفْظًا مِنْ رَبِّهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - لَهُ: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) ٤: ١١٣ وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ هُنَا وَلَوْلَا فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ فَكَّرُوا فِي ذَلِكَ وَمَا قَارَبُوا. وَقَالَ فِي بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا) ٣: ١٢٢ أَيْ تَتْرُكَا الْمُضِيَّ مَعَ الرَّسُولِ لِلْقِتَالِ يَوْمَ ((أُحُدٍ)) جُبْنًا وَاتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِمَا دَاعِي الْإِيمَانِ فَلَمْ تَفْشَلَا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَاللهُ وَلِيُّهُمَا) ٣: ١٢٢ فَرَجَّحَتَا الْمَانِعَ مِنَ الْفَشَلِ بِالْمُقْتَضِي لِلْجِهَادِ.

وَفِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَمَّ أَنْ يَأْمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَأْمُرَ مَنْ يُحَرِّقُ عَلَى الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ)) يَعْنِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا حَتَّى كَادَ يَفْعَلُهُ، وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ تَرْجِيحًا لِلْمَانِعِ عَلَى الْمُقْتَضِي.

إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَمِنَ الْجَلْيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتْنَاهُ بِشَوَاهِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا بِمَا قَرَّرْنَاهُ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ بَاطِلٌ لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ، بَلْ لِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ، وَإِنَّمَا خَدَعَتْهُمْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الْبَاطِلَةُ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:

(أَوَّلُهَا) أَنَّ الْهَمَّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفِعْلٍ لِلْهَامِّ، وَالْوِقَاعُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْمَرْأَةِ فَتَهُمَّ بِهِ، وَإِنَّمَا نَصِيبُهَا مِنْهُ قَبُولُهُ مِمَّنْ يَطْلُبُهُ مِنْهَا بِتَمْكِينِهِ مِنْهُ، وَهَذَا التَّمْكِينُ هُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ دُخُولُ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ فِيهِ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ مِنْ زَوْجِهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ.

(ثَانِيهَا) أَنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَطْلُبْ مِنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ هَذَا الْفِعْلَ فَيُسَمَّى قَبُولُهَا لِطَلَبِهِ وَرِضَاهَا بِتَمْكِينِهِ مِنْهُ هَمًّا لَهَا، فَإِنَّ نُصُوصَ الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَعْدَهَا تُبَرِّئُهُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ وَسَائِلِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ أَيْضًا.

(ثَالِثُهَا) لَوْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: ((وَلَقَدْ هَمَّ بِهَا وَهَمَّتْ بِهِ)) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُقَدَّمُ بِالطَّبْعِ وَالْوَضْعُ وَهُوَ الْهَمُّ الْحَقِيقِيُّ. وَالْهَمُّ الثَّانِي مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ.

(رَابِعُهَا) أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْقِصَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ عَازِمَةً عَلَى مَا طَلَبَتْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>