مِنْ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ فِي الْقِصَاصِ - وَلَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ إِنْ تَعَدَّدُوا - وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ كَمَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا يَعْفُو مَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ هَذَا الْحَقَّ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَهُمْ عَصَبَتُهُ الَّذِينَ يَعْتَزُّونَ بِوُجُودِهِ، وَيُهَانُونَ بِفَقْدِهِ، وَيُحْرَمُونَ مِنْ عَوْنِهِ وَرِفْدِهِ، فَمَنْ أَزْهَقَ رُوحَهُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا إِزْهَاقَ رُوحِهِ، لِمَا تَسْتَفِزُّهُمْ إِلَيْهِ نُعَرَةُ الْقَرَابَةِ وَطَبِيعَةُ الْمَصْلَحَةِ ; فَإِذَا لَمْ يُجَبْ طَلَبُهُمْ، وَلَمْ يَقْتَصَّ الْحَاكِمُ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَالُونَ لِلِانْتِقَامِ، وَيَفْشُو بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَاتِلِ وَقَوْمِهِ التَّشَاحُنُ وَالْخِصَامُ، وَإِذَا جَاءَ الْعَفْوُ مِنْ جَانِبِهِمْ أُمِنَ الْمَحْذُورُ وَالْفِتْنَةُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ اسْتِعْطَافُ الْقَاتِلِ وَقَوْمِهِ لَهُمْ، وَاسْتِعْتَابُهُمْ إِيَّاهُمْ بِإِثَارَةِ عَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ، وَأَرِيحِيَّةِ الْمُرُوءَةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوجِبُ اللهُ تَعَالَى حَجْبَ الدَّمِ، وَلَيْسَ لِلْحُكُومَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الْعَفْوِ إِذَا رَضُوا بِهِ، وَلَا أَنْ تَسْتَقِلَّ بِالْعَفْوِ إِذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ فَتَحْفَظُ قُلُوبَهُمْ، وَتُخْرِجُ أَضْغَانَهُمْ، وَتَحْمِلُهُمْ
عَلَى مُحَاوَلَةِ الِانْتِقَامِ بِأَيْدِيهِمْ - إِذَا قَدَرُوا - فَيَزِيدُ الْبَلَاءُ، وَيَكْثُرُ الِاعْتِدَاءُ، أَوْ يَعِيشُ النَّاسُ فِي تَبَاغُضٍ وَعَدَاءٍ، وَفَوْضَى تُسْتَبَاحُ فِيهَا الدِّمَاءُ. وَعِبَارَةُ الْآيَةِ تُشْعِرُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْعَفْوَ ; وَلِذَلِكَ فَرَضَ اتِّبَاعَ الْعَفْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامًّا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ كَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَةِ، فَإِنْ عَفَا بَعْضُهُمْ يُرَجَّحُ جَانِبُهُ عَلَى الْآخَرِينَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ (شَيْءٌ) هُنَا نَائِبٌ عَنِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: عُفِيَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ بِأَنْ نَالَهُ بَعْضُهُ مِمَّنْ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا وَيُؤَكِّدُهُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعَافِي بِلَفْظِ الْأَخِ الَّذِي يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَقْتَضِي الِارْتِدَادَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَطْعِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّهُ فَاعِلُهُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمُ اسْتِعْمَالُ عُفِيَ مُتَعَدِّيَةً بِاللَّامِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا بِمَعْنَى تَرَكَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ تَبَعًا لِلْكَشَّافِ: وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ عَفَا الشَّيْءَ بِمَعْنَى تَرَكَهُ بَلْ أَعْفَاهُ، وَعَفَا يُعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الذَّنْبِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) (٩: ١٤٣) وَقَالَ: (عَفَا اللهُ عَنْهَا) (٥: ١٠١) فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى الْجَانِي بِاللَّامِ وَعَلَيْهِ مَا فِي الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ مِنْ جِهَةِ أَخِيهِ يَعْنِي وَلِيَّ الدَّمِ.
وَلَمَّا كَانَ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَى بِأَخْذِ الدِّيَةِ قَالَ تَعَالَى: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) أَيْ: مَنْ نَالَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْعَفْوِ فَالْوَاجِبُ فِي شَأْنِهِ أَوْ قَضِيَّتِهِ تَنْفِيذُ الْعَفْوِ وَثُبُوتُ الدِّيَةِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِاتِّبَاعِ الْعَفْوِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ الْحَاكِمِ وَعَلَى الْعَافِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُوا فَعَلَيْهِمْ أَلَّا يُرْهِقُوا الْقَاتِلَ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا، بَلْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدِّيَةَ بِالرِّفْقِ وَالْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا يَسْتَنْكِرُهُ النَّاسُ، وَعَبَّرَ عَنِ الثَّانِي بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَلَا يَمْطُلَ وَلَا يَنْقُصَ وَلَا يُسِيءَ فِي صِفَةِ الْأَدَاءِ.
وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الدِّيَةِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute