(٤: ٩٢) هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ مَا قَالُوهُ مِنِ احْتِمَالِ غَيْرِهِ.
وَيُؤَكِّدُ رَغْبَةَ الشَّارِعِ فِي الْعَفْوِ امْتِنَانُهُ عَلَيْنَا بِإِجَازَتِهِ وَوَعِيدِهِ لِمَنِ اعْتَدَى،
أَمَّا الِامْتِنَانُ بِهِ فَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وَأَيُّ تَخْفِيفٍ وَرُخْصَةٍ أَفْضَلُ مِنْ حَجْبِ الدَّمِ بِتَجْوِيزِ الْعَفْوِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنْهُ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَالِ؟ فَهَذِهِ رَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ رَغَّبَهَا فِي التَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمَّا الْوَعِيدُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ بَعْدَهُ فَقَوْلُهُ: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: بَعْدَ الْعَفْوِ عَنِ الدَّمِ وَالرِّضَى بِالدِّيَةِ بِأَنِ انْتَقَمَ مِنَ الْقَاتِلِ (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) قِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يَتَحَتَّمُ قَتْلُ الْمَوْلَى الْعَافِي أَوْ غَيْرِهِ إِذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ; بَلْ يَقْتُلُهُ الْحَاكِمُ وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمْرُهُ إِلَى الْإِمَامِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَرَاهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمْ مَا يُؤَيِّدُهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَبَيَانٌ لِحِكْمَتِهِ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَعْلِيلَ الْعَفْوِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهِ وَالْوَعِيدَ عَلَى الْغَدْرِ بَعْدَهُ عِنَايَةً بِهِ، وَإِيذَانًا بِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصْغِيرَ شَأْنِهِ. وَبَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ لِوَضْعِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، كَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ وَالدَّلَائِلِ لِلْمَطَالِبِ الْعَقْلِيَّةِ، بِهَذِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَبِتِلْكَ يُعْرَفُ الْعَدْلُ وَمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمَصَالِحِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ وَأَبْعَثَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَأَدْعَى إِلَى الرَّغْبَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ - وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ بِأُسْلُوبٍ لَا يُسَامَى، وَعِبَارَةٍ لَا تُحَاكَى، وَاشْتُهِرَ أَنَّهَا مَنْ أَبْلَغِ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُعْجِزُ فِي التَّحَدِّي فُرْسَانَ الْبَيَانِ، وَمِنْ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ فِيهَا أَنْ جَعَلَ فِيهَا الضِّدَّ مُتَضَمِّنًا لِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَيَاةُ فِي الْإِمَاتَةِ الَّتِي هِيَ الْقِصَاصُ، وَعَرَّفَ الْقِصَاصَ وَنَكَّرَ الْحَيَاةَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْحُكْمِ نَوْعًا مِنَ الْحَيَاةِ عَظِيمًا لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُجْهَلُ سِرُّهُ.
ثُمَّ إِنَّهَا فِي إِيجَازِهَا قَدِ ارْتَقَتْ أَعْلَى سَمَاءٍ لِلْإِعْجَازِ، وَكَانُوا يَنْقُلُونَ كَلِمَةً فِي مَعْنَاهَا عَنْ بَعْضِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ يَعْجَبُونَ مِنْ إِيجَازِهَا فِي بَلَاغَتِهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ الطَّاقَةَ لَا تَصِلُ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ غَايَتِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. وَإِنَّمَا فُتِنُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ
وَظَنُّوا أَنَّهَا نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْبَيَانُ، وَيُفْصِحَ بِهِ اللِّسَانُ ; لِأَنَّهَا قِيلَتْ قَبْلَهَا كَلِمَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا لِبُلَغَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إِحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. وَقَوْلِهِمْ: أَكْثِرُوا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ. . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ ((الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ)) أَبْلَغُهَا، وَأَيْنَ هِيَ مِنْ كَلِمَةِ اللهِ الْعُلْيَا، وَحِكْمَتِهِ الْمُثْلَى؟
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: وَبَيَانُ التَّفَاوُتِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أَخْصَرُ مِنَ الْكُلِّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَكُمْ) لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ إِذْ لَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: (فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أَشَدُّ اخْتِصَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ; أَيْ لِأَنَّ حُرُوفَهُ أَقَلُّ. (وَثَانِيهَا) أَنَّ قَوْلَهُمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute