للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَلَتْ كَلِمَتُهُ، وَبَهَرَتْ آيَتُهُ. اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ عَلَى كَوْنِهَا أَبْلَغَ، وَكَلِمَتِهَا أَوْجَزَ، قَدْ أَفَادَتْ حُكْمًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَطْلُبْهُ أَحَدٌ مِنْ عُقَلَائِهِمْ وَبُلَغَائِهِمْ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْعُقُوبَةِ وَبَيَانُ أَنَّ فِيهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، وَصِيَانَةَ النَّاسِ مِنِ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَأَمَّا أَمْرُهُمْ بِالْقَتْلِ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ أَوْ يَنْتَفِيَ فَهُوَ يَصْدُقُ بِاعْتِدَاءِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ، وَالْإِسْرَافِ فِي قَتْلِ رِجَالِهَا لِتَضْعُفَ فَلَا تَقْدِرَ عَلَى أَخْذِ الثَّأْرِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ قَتْلَنَا لِعَدُوِّنَا إِحْيَاءٌ لَنَا، وَتَقْلِيلٌ أَوْ نَفْيٌ لِقَتْلِهِ إِيَّانَا، وَأَيْنَ هَذَا الظُّلْمُ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ؟ فَالْآيَةُ الْحَكِيمَةُ قَرَّرَتْ أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الْقِصَاصَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِهَا ; لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ نَفْسًا يُقْتَلُ بِهَا يَرْتَدِعُ عَنِ الْقَتْلِ فَيَحْفَظُ الْحَيَاةَ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى نَفْسِهِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالدِّيَةِ لَا يَرْدَعُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْ سَفْكِ دَمِ خَصْمِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ

مَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ الْإِيقَاعِ بِعَدُوِّهِ، وَفِي الْآيَةِ مِنْ بَرَاعَةِ الْعِبَارَةِ وَبَلَاغَةِ الْقَوْلِ مَا يَذْهَبُ بِاسِتِبْشَاعِ إِزْهَاقِ الرُّوحِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَيُوَطِّنُ النُّفُوسَ عَلَى قَبُولِ حُكْمِ الْمُسَاوَاةِ إِذْ لَمْ يُسَمِّ الْعُقُوبَةَ قَتْلًا أَوْ إِعْدَامًا، بَلْ سَمَّاهَا مُسَاوَاةً بَيْنَ النَّاسِ تَنْطَوِي عَلَى حَيَاةٍ سَعِيدَةٍ لَهُمْ، هَذَا وَإِنَّ دُوَلَ الْإِفْرِنْجِ تَجْرِي عَلَى سُنَّةِ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي جَعْلِ الْقَتْلِ لِأَعْدَائِهَا وَخُصُومِهَا أَنْفَى لِقَتْلِهِمْ إِيَّاهَا، وَذَلِكَ شَأْنُهُمْ مَعَ الضُّعَفَاءِ كَالشُّعُوبِ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْهَا بِاسْمِ الِاسْتِعْمَارِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ، فَأَيْنَ هِيَ مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ، وَمُسَاوَاتِهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَنَامِ؟

قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْحِكْمَةِ وَالْبُرْهَانِ: (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) فَخَصَّ بِالنِّدَاءِ أَصْحَابَ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ، مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَا اللُّبِّ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ قِيمَةَ الْحَيَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَيَعْرِفُ مَا تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ وَمَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ: الْقِصَاصُ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَالْعَفْوُ وَهُوَ الْفَضْلُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ ذَا اللُّبِّ هُوَ الَّذِي يَفْقَهُ سِرَّ هَذَا الْحُكْمِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَقْلَهُ فِي فَهْمِ دَقَائِقِ الْأَحْكَامِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ لِلْأَنَامِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ مَنْفَعَةَ الْقِصَاصِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، فَهُوَ بِلَا لُبٍّ وَلَا جَنَانٍ. وَلَا رَحْمَةٍ وَلَا حَنَانٍ. وَقَوْلُهُ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) جَعَلَهُ (الْجَلَالُ) تَعْلِيلًا لِشَرْعِ الْقِصَاصِ وَقَدَّرَ لَهُ ((شَرَعَ)) أَيْ: لَمَّا كَانَ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لَكُمْ كَتَبْنَاهُ عَلَيْكُمْ وَشَرَعْنَاهُ لَكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الِاعْتِدَاءَ، وَتَكُفُّونَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَالشَّرْعِيَّةُ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْآيَةِ، وَإِيجَازُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِهَا لِأَجْلِ التَّعْلِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ ((شَرَعَ)) وَيَتَعَلَّقُ الرَّجَاءُ بِالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>