(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أَيْ: ثَبَتَتْ لَكُمُ الْحَيَاةُ فِي الْقِصَاصِ لِتَعُدَّكُمْ وَتُهَيِّئَكُمْ لِلتَّقْوَى وَالِاحْتِرَاسِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَائِرِ ضُرُوبِ الِاعْتِدَاءِ، إِذِ الْعَاقِلُ حَرِيصٌ عَلَى الْحَيَاةِ وَلُوعٌ بِالْأَخْذِ بِوَسَائِلِهَا، وَالِاحْتِرَاسِ مِنْ غَوَائِلِهَا.
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
وَجْهُ التَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْمَوْتِ يُذَكِّرُ بِمَا يُطْلَبُ مِمَّنْ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، وَالْخِطَابُ فِيهِ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ بِأَنْ يُوصُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ حُضُورِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَظُهُورِ أَمَارَاتِهِ لِتَكُونَ خَاتِمَةُ أَعْمَالِهِمْ خَيْرًا، وَهُوَ عَلَى نَسَقِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ بِالْقِصَاصِ مِنِ اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ مُتَكَافِلَةً يُخَاطَبُ الْمَجْمُوعُ مِنْهَا بِمَا يُطْلَبُ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَقِيَامُ الْأَفْرَادِ بِحُقُوقِ الشَّرِيعَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ وَالتَّكَافُلِ وَالِائْتِمَارِ وَالتَّنَاهِي، فَلَوْ لَمْ يَأْتَمِرِ الْبَعْضُ وَجَبَ عَلَى الْبَاقِينَ حَمْلُهُ عَلَى الِائْتِمَارِ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أَيْ: فُرِضَ عَلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا حَضَرَتِ الْوَاحِدَ مِنْكُمْ أَسْبَابُ الْمَوْتِ وَعَلَامَاتُهُ (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يَتْرُكُهُ لِوَرَثَتِهِ (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ تُوصُوا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ بِالْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا يُسْتَنْكَرُ لِقِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ وَلَا بِكَثْرَتِهِ الضَّارَّةِ بِالْوَرَثَةِ بِأَلَا يَزِيدَ الْمُوصِي بِهِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَجَانِبِ عَنْ ثُلُثِ الْمَتْرُوكِ لِلْوَارِثِينَ.
وَالْوَصِيَّةُ: الِاسْمُ مِنَ الْإِيصَاءِ وَالتَّوْصِيَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمُوصَى بِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ عَمَلٍ، وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَتَتَأَكَّدُ فِي الْمَرَضِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا تَجِبُ عِنْدَ حُضُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَفِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي، يُقَالُ: أَوْصَى
وَوَصَّى فُلَانًا بِكَذَا مِنَ الْعَمَلِ أَوِ الْمَالِ، وَوَصَّى بِفُلَانٍ، وَأَوْصَى لَهُ بِكَذَا مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ وَأَوْصَاهُ فِيهِ ; أَيْ: فِي شَأْنِهِ، وَإِيصَاءُ اللهِ بِالشَّيْءِ وَفِيهِ أَمْرُهُ. وَفَسَّرُوا الْخَيْرَ بِالْمَالِ، وَقَيَّدَهُ الْأَكْثَرُونَ بِالْكَثِيرِ أَخْذًا مِنَ التَّنْكِيرِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ (الْجَلَالُ) بِذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute