للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

آيَةِ الْمَوَارِيثِ مَخْصُوصَةٌ بِغَيْرِ الْوَارِثِ، بِأَنْ يَخُصَّ الْقَرِيبَ هُنَا بِالْمَمْنُوعِ مِنَ الْإِرْثِ وَلَوْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَوَالِدَاهُ كَافِرَانِ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ لَهُمَا بِمَا يُؤَلِّفُ بِهِ قُلُوبَهُمَا، وَقَدْ أَوْصَى اللهُ تَعَالَى بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) (٢٩: ٨) الْآيَةَ، وَفِي آيَةِ لُقْمَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ لِلَّهِ وَلَهُمَا (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) (٣١: ١٥) الْآيَةَ.

أَفَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَخْتِمَ هَذِهِ الْمُصَاحَبَةَ بِالْمَعْرُوفِ بِالْوَصِيَّةِ لَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ الْكَثِيرِ (قَالَ) : وَجَوَّزَ بَعْضُ السَّلَفِ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَخُصَّ بِهَا مَنْ يَرَاهُ أَحْوَجَ مِنَ الْوَرَثَةِ كَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ غَنِيًّا وَالْبَعْضُ الْآخَرُ فَقِيرًا. مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ أَبُوهُ أُمَّهُ وَهُوَ غَنِيٌّ وَهِيَ لَا عَائِلَ لَهَا إِلَّا وَلَدُهَا وَيَرَى أَنَّ مَا يُصِيبُهَا مِنَ التَّرِكَةِ لَا يَكْفِيهَا، وَمِثْلُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ وَلَدِهِ أَوْ إِخْوَتِهِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ - عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ فَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الْحَكِيمَ الْخَبِيرَ اللَّطِيفَ بِعِبَادِهِ الَّذِي وَضَعَ الشَّرِيعَةَ وَالْأَحْكَامَ لِمَصْلَحَةِ خَلْقِهِ لَا يُحَتِّمُ أَنْ يُسَاوِيَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ مَنْ يَعْجَزُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ قَدْ وَضَعَ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ الْعَادِلَةِ عَلَى أَسَاسِ التَّسَاوِي بَيْنَ الطَّبَقَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ سَوَاسِيَةٌ فِي الْحَاجَةِ، كَمَا أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقَرَابَةِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَجْعَلَ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى أَمْرِ الْإِرْثِ،

أَوْ يَجْعَلَ نَفَاذَ هَذَا مَشْرُوطًا بِنَفَاذِ ذَلِكَ قَبْلَهُ، وَيَجْعَلَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَوْلَى بِالْوَصِيَّةِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ; لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا يَكُونُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ فِي الْحَاجَةِ أَحْيَانًا، فَقَدْ قَالَ فِي آيَاتِ الْإِرْثِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (٤: ١٢) فَأَطْلَقَ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ وَقَالَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ هُنَا مَا هُوَ تَفْصِيلٌ لِتِلْكَ.

أَقُولُ: وَرَأَيْتُ الْأُلُوسِيَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ آيَةَ الْإِرْثِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْمِيرَاثَ عَلَى وَصِيَّةٍ مُنْكَرَةٍ، وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً لَوَجَبَ تَرْتِيبُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ وَرُتِّبَ عَلَى الْمُطْلَقِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ بَعْدَ التَّقْيِيدِ نَسْخٌ، كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ نَسْخٌ اهـ.

فَأَمَّا دَعْوَاهُ الِاتِّفَاقَ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَقَاعِدَةُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ إِنْ سَلِمَتْ لَا تُؤْخَذُ عَلَى إِطْلَاقِهَا ; لِأَنَّ شَرْعَ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يُنَافِي شَرْعَ الْوَصِيَّةِ لِصِنْفٍ مَخْصُوصٍ، وَنَظِيرُ هَذَا الْأَمْرُ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ بِمُوَاسَاةِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى مِنْهُمْ لَا يَتَعَارَضَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مِنْهُمَا مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ، إِلَّا إِذَا وُجِدَ فِي الْعِبَارَةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ، وَمَا فِي الْآيَتَيْنِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ تَعَارُضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>