للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَإِنَّمَا آيَةُ الْوَصِيَّةِ خَاصَّةٌ، وَذِكْرُ الْوَصِيَّةِ مُنَكَّرَةً فِي آيَةِ الْإِرْثِ يُفِيدُ الْإِطْلَاقَ الَّذِي يَشْمَلُ ذَلِكَ الْخَاصَّ وَغَيْرَهُ، فَإِنْ سَلَّمْنَا لِذَلِكَ الْحَنَفِيِّ أَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ مُتَأَخِّرَةٌ، فَلَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ تُذْكَرَ فِيهَا الْوَصِيَّةُ بِالتَّعْرِيفِ لِتَدُلَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ ; إِذْ لَوْ رَتَّبَ الْإِرْثَ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ لَمَا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَلَوْ كَانَ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ يَقْتَضِي مَا قَالَهُ لَمَا قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ الْأُلُوسِيُّ نَفْسُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ سَمَّى التَّخْصِيصَ نَسْخًا، فَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، كَأَنْ يَكُونَ الْوَالِدَانِ كَافِرَيْنِ. قَالَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: مَنْ لَمْ يُوصِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِذَوِي قَرَابَتِهِ - مِمَّنْ لَمْ يَرِثْ - فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ مُسْتَحَبَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَسَمَّى هَذَا كَغَيْرِهِ نَسْخًا

لِلْوُجُوبِ. وَلَنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ مَشْرُوعَةٌ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِعُمُومِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِغَيْرِ الْوَارِثِ، فَحُكْمُهَا إِذَا لَمْ يَبْطُلْ. فَمَا هَذَا الْحِرْصُ عَلَى إِثْبَاتِ نَسْخِهَا، مَعَ تَأْكِيدِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا وَالْوَعِيدِ عَلَى تَبْدِيلِهَا؟ إِنْ هَذَا إِلَّا تَأْثِيرُ التَّقْلِيدِ.

فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ لَا تُعَارِضُ آيَةَ الْوَصِيَّةِ، فَيُقَالُ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا إِذَا عُلِمَ أَنَّهَا بَعْدَهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا لَهُ حُكْمَ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ يُلْصِقُوهُ بِهِ بِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ لِيَصْلُحَ نَاسِخًا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ ثِقَةِ الشَّيْخَيْنِ بِهِ فَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْهُمَا مُسْنَدًا، وَرِوَايَةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مَحْصُورَةٌ فِي عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي إِسْنَادِ الثَّانِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَإِنَّمَا حَسَّنَهٌ التِّرْمِذِيُّ ; لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ يَرْوِيهِ عَنِ الشَّامِيِّينَ، وَقَدْ قَوَّى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ رِوَايَتَهُ عَنْهُمْ خَاصَّةً. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْلُولٌ ; إِذْ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ عَطَاءٌ الْخُرَسَانِيُّ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَهُ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْهُ، وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا رُوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ فِي ضَعْفِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا رِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ صُحِّحَتْ إِلَّا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، وَالَّذِي صَحَّحَهَا هُوَ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي التَّصْحِيحِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا لَمْ يَرْضَيَاهَا ; فَهَلْ يُقَالُ إِنَّ حَدِيثًا كَهَذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ؟

وَقَدْ تَوَسَّعَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّسْخِ، وَمُلَخَّصُ مَا قَالَهُ: إِنَّ النَّسْخَ فِي الشَّرَائِعِ جَائِزٌ، مُوَافِقٌ لِلْحِكْمَةِ وَوَاقِعٌ، فَإِنَّ شَرْعَ مُوسَى نَسَخَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ، وَشَرْعَ عِيسَى نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَشَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ نَسَخَتْ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ الَّتِي تَقْبَلُ النَّسْخَ إِنَّمَا تُشْرَعُ لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ، وَالْمَصْلَحَةُ تَخْتَلِفُ

<<  <  ج: ص:  >  >>