بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، فَالْحَكِيمُ الْعَلِيمُ يُشَرِّعُ لِكُلِّ زَمَنٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَكَمَا تُنْسَخُ شَرِيعَةٌ بِأُخْرَى يَجُوزُ أَنْ تُنْسَخَ بَعْضُ أَحْكَامِ شَرِيعَةٍ بِأَحْكَامٍ أُخْرَى فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلَاتِهِمْ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَلَكِنَّ هُنَاكَ خِلَافًا فِي نَسْخِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَلَوْ بِالْقُرْآنِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُفَسِّرُ الشَّهِيرُ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مَنْسُوخَةٌ، وَهُوَ يُخَرِّجُ كُلَّ مَا قَالُوا إِنَّهُ مَنْسُوخٌ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ بِضَرْبٍ مِنَ التَّخْصِيصِ أَوِ التَّأْوِيلِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِبْلَةِ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ لِلْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَسْخٌ لِحُكْمٍ لَا نَدْرِي هَلْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِاجْتِهَادِهِ أَمْ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى غَيْرِ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ الْوَحْيَ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِي الْقُرْآنِ.
وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ آيَةٍ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْكِتَابِ يُعْبَدُ اللهُ تَعَالَى بِتِلَاوَتِهَا وَبِتَذَكُّرِ نِعْمَتِهِ بِالِانْتِقَالِ مِنْ حُكْمٍ كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَصْلَحَةِ وَلِحَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِلَى حُكْمٍ يُوَافِقُ الْمَصْلَحَةَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يُنْسَخُ حُكْمٌ إِلَّا بِأَمْثَلَ مِنْهُ كَالتَّخْفِيفِ فِي تَكْلِيفِ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَ عَشْرِ أَمْثَالِهِمْ بِالِاكْتِفَاءِ بِمُقَابَلَةِ الضِّعْفِ بِأَنْ تُقَاتِلَ الْمِائَةُ مِائَتَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ بِالنَّسْخِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَعُلِمَ تَارِيخُهُمَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقَالُ إِنَّ الثَّانِيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى. وَأَمَّا آيَاتُ الْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَخْبَارِ فَلَا نَسْخَ فِيهَا، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ كَنَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى وَأَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِمَا. وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا نَسْخُ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ لِحَدِيثِ الْآحَادِ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ الْقَوِيُّ فَهُوَ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْحَدِيثِ وَلَوْ مُتَوَاتِرًا، أَوِ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ الظَّنِّيَّ - وَهُوَ خَبَرُ الْآحَادِ - لَا يَنْسَخُ الْقَطْعِيَّ كَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ. وَالْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ صَرَّحُوا بِجَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ
الْأَحْكَامِ، فَمَتَى أَيْقَنَّا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ وَاسْتَوْفَتْ شُرُوطَ النَّسْخِ تُعْتَبَرُ نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ كَمَا إِذَا نَسَخَتْ آيَةٌ آيَةً. وَذَهَبَ آخَرُونَ وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ كَمَا فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ بِحَدِيثٍ مَهْمَا تَكُنْ دَرَجَتُهُ لِأَنَّ لِلْقُرْآنِ مَزَايَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute