سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ)) فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: ((إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا)) فَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا - الْحَدِيثَ. ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ. وَرَوَى الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ: ((إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ)) وَفِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: ((هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ)) فَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ ; لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا تُطْلَقَ فِي مُقَابِلِ الْوَاجِبِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ (الصَّادِقِ) عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ (الْبَاقِرِ) ابْنِ عَلِيٍّ (زَيْنِ الْعَابِدِينَ) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ
إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ - كُرَاعُ بِالضَّمِّ وَالْغَمِيمِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ وَادٍ أَمَامَ عَسْفَانَ - وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ: ((أُولَئِكَ الْعُصَاةُ)) أَيْ: لِأَنَّهُمْ أَبَوُا الِاقْتِدَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبُولِ الرُّخْصَةِ وَالْحَالُ حَالُ مَشَقَّةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَقَدَّمَتْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ فَالْعِصْيَانُ ظَاهِرٌ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ. فَقَالَ ((مَا هَذَا؟)) فَقَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ)) وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ الْخِلَافَ فِي الْأَفْضَلِ مِنَ الصِّيَامِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَقَالَ: الْحَاصِلُ أَنَّ الصَّوْمَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ، وَالْفِطْرُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَشَقَّةُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ عَنِ الْفَرْضِ بَلْ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ فِي الْحَضَرِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ)) وَمُقَابَلَةُ الْبِرِّ الْإِثْمُ، وَإِذَا كَانَ آثِمًا بِصَوْمِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute