الْحَظْرِ، فَهِيَ كَالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَاطْلُبُوا بِمُبَاشَرَتِهِنَّ مَا قَدَّرَهُ لِجِنْسِكُمْ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ مِنْ جَعْلِ الْمُبَاشِرَةِ سَبَبًا لِلنَّسْلِ، أَوْ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ كَتَبَهُ لِكُلٍّ مِنْكُمْ بِأَنْ تَكُونَ مُبَاشَرَتُكُمْ بِقَصْدِ إِحْيَاءِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ، زَادَ بَعْضُهُمْ: لَا لِمَحْضِ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَاللَّذَّةِ الَّتِي يُشَارِكُكُمْ فِيهَا الْبَهَائِمُ، وَهُوَ يُشْعِرُ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِاللَّذَّةِ الزَّوْجِيَّةِ مَذْمُومٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّسْلِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ الْمَحْرُومَيْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ أَوِ اللَّذَيْنِ رُزِقَا بَعْضَ الْأَوْلَادِ ثُمَّ انْقَطَعَ نِتَاجُهُمَا لَا يُذَمُّ وَلَا يُكْرَهُ لَهُمَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِغَيْرِ إِفْرَاطٍ، بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ لِإِحْصَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَرَامِ. وَلِمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفُقَرَاءِ: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟)) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ((فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ
كَانَ لَهُ أَجْرٌ)) وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعِبَارَةَ تَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَإِنَّهَا لَا يُقْصَدُ بِهَا الْوَلَدُ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أَيْ: وَيُبَاحُ لَكُمُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ كَالْمُبَاشِرَةِ عَامَّةَ اللَّيْلِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ الْفَجْرِ، فَمَتَى تَبَيَّنَ وَجَبَ الصِّيَامُ. وَمَا أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِالْخَيْطَيْنِ، وَالْخَيْطُ الْأَبْيَضُ هُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، فَمَتَى أَسْفَرَ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِتَسْمِيَتِهِ خَيْطًا، فَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ كَالْأَعْمَشِ مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ تُنَافِيهِ عِبَارَةُ الْقُرْآنِ.
هَذَا مَا كَتَبْتُهُ أَوَّلًا وَهُوَ غَيْرُ دَقِيقٍ، وَسَأُفَصِّلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الِاسْتِدْرَاكِ وَالْإِيضَاحِ الَّذِي تَرَاهُ بَعْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي بَيَانِ آخَرِ اللَّيْلِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ - وَحُكْمُهَا - يُشْعِرُ بِكَرَاهَتِهَا فِي آخِرِ وَقْتِ الْإِبَاحَةِ الَّذِي تَتْلُوهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ الْمَنْدُوبِ التَّغْلِيسُ بِهَا.
(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) فُهِمَ مِنْ غَايَةِ وَقْتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مَبْدَأُ الصِّيَامِ. وَذَكَرَ فِي هَذِهِ غَايَتَهُ وَهِيَ ابْتِدَاءُ اللَّيْلِ بِغُرُوبِ قُرْصِ الشَّمْسِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَهَابِ شُعَاعِهَا عَنْ جُدْرَانِ الْبُيُوتِ وَالْمَآذِنِ، وَلَا يَلْزَمُ أَهْلَ الْأَغْوَارِ وَالْقِيعَانِ ذَهَابُ شُعَاعِهَا عَنْ شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ بَعِيدَةً كَانَتْ أَوْ قَرِيبَةً، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَغِيبِ الشَّمْسِ فِي أُفُقِهِمُ الَّذِي يَتْلُوهُ إِقْبَالُ اللَّيْلِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِذَا أَدْبَرَ النَّهَارُ وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ ((مِنْ هَاهُنَا)) عِنْدَ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، وَلِلْمَبَانِي الْعَصْرِيَّةِ الشَّامِخَةِ فِي بِلَادِ أَمْرِيكَا حُكْمُهَا فِي ذَلِكَ.
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْإِطْنَابِ ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْبَيَانَ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ، وَأَظْهَرَ فِي رَحْمَةِ الشَّارِعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute