للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْحَكِيمِ (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ إِبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ.

وَالْمَقَامُ مَقَامُ بَيَانٍ وَإِيضَاحٍ لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْإِبْهَامِ وَلَا لِلْإِيهَامِ مَجَالٌ ; أَيْ: وَلَا تُبَاشِرُوا النِّسَاءَ حَالَ عُكُوفِكُمْ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْعِبَادَةِ، فَالْمُبَاشَرَةُ تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ وَلَوْ لَيْلًا كَمَا تُبْطِلُ الصِّيَامَ نَهَارًا.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ كُلِّهَا، وَسُمِّيَتْ حُدُودًا ;

لِأَنَّهَا حَدَّدَتِ الْأَعْمَالَ وَبَيَّنَتْ أَطْرَافَهَا وَغَايَاتَهَا، حَتَّى إِذَا تَجَاوَزَهَا الْعَامِلُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ وَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا - وَالْحَدُّ طَرَفُ الشَّيْءِ وَمَا يَفْصِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَحُدُودُ اللهِ مَحَارِمُهُ الْمُبَيَّنَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَوْ بِتَحْدِيدِ الْحَلَالِ الْمُقَابِلِ لَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ هُنَا بِمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَوْ لَيْلًا وَقَوْلُهُ: (فَلَا تَقْرَبُوهَا) هُوَ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ قَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَلَا تَعْتَدُوهَا) (٢: ٢٢٩) لِأَنَّهُ يُرْشِدُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، فَمَنْ قَرُبَ مِنَ الْحَدِّ أَوْشَكَ أَنْ يَعْتَدِيَهُ، كَالشَّابِّ يُدَاعِبُ امْرَأَتَهُ فِي النَّهَارِ، يُوشِكُ أَلَّا يَمْلِكَ إِرَبَهُ فَيَقَعُ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِالْإِنْزَالِ، فَالْقُرْبُ مِنَ الْحَدِّ يَتَحَقَّقُ بِاسْتِبَاحَةِ أَقْصَى مَا دُونَهُ، كَالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الزَّوْجِ بِمَا دُونِ الْوِقَاعِ، وَكَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ لِلصَّائِمِ، وَتَعَدِّيهِ يَتَحَقَّقُ بِالْوُقُوعِ فِيمَا بَعْدَهُ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْأَوَّلِ يُفِيدُ كَرَاهَتَهُ وَشِدَّةَ تَحْرِيمِ مَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَنْهَنَا اللهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ قُرْبِ حُدُودِهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الزِّنَا وَمَالِ الْيَتِيمِ، وَقَدْ تَعَدَّدَ فِيهِ الْوَعِيدُ عَلَى تَعَدِّيهَا، وَهَذَانِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ الَّتِي قَلَّمَا يَسْلَمُ مَنْ قَرُبَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا.

وَفِي مَعْنَى الْأَوَّلِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ النِّسَاءِ فِي الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ، فَتَخْصِيصُ النَّهْيِ بِهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ حُمِلَ عَلَى عُمُومِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِمْسَاكِ الِاحْتِيَاطِيِّ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَكِنَّ هَذَا قَدْ يُعَارِضُ الْأَمْرَ بِتَعْجِيلِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تَقْرَبُوهَا بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَلَا بِالْهَوَى وَالرَّأْيِ بَلِ اقْبَلُوهَا كَمَا هِيَ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى تَخْطِئَةِ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ بِمَا كَانَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ وَاتِّبَاعِ آرَاءِ أَنْفُسِهِمْ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ يَجِبُ فِيهِ الِاتِّبَاعُ الْمَحْضُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَتَجَاوَزُوا الْمَنْصُوصَ فِي الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بَلْ عَلَيْكُمْ فِيهَا بِالِاتِّبَاعِ الْمَحْضِ، فَمَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَخُذُوا، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَذَرُوا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ ((إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ - مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ - فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ ((رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ)) فِي تَعْلِيلِ السُّكُوتِ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ: عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَعَزِيمَتِهِ وَرُخْصَتِهِ وَفَائِدَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ أَتَمَّ الْبَيَانِ وَأَكْمَلَهُ، لِيُعِدَّهُمْ لِلتَّقْوَى، وَالتَّبَاعُدِ عَنِ الْوَهْمِ وَالْهَوَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>