اسْتِدْرَاكٌ وَإِيضَاحٌ لِتَفْسِيرِ آيَاتِ الصِّيَامِ
(وَتَحْقِيقُ الْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنْهَا اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ)
(مَسْأَلَةُ بَدْءِ الصِّيَامِ وَهَلْ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ أَمْ تَبَيُّنُ بَيَاضِ النَّهَارِ لِلنَّاسِ؟)
إِنَّ مَا كَتَبْتُهُ أَوَّلًا وَبَيَّنْتُ بِهِ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ فِي تَحْدِيدِ نَهَارِ الصِّيَامِ يُبْنَى عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَشْبِيهِ الْعَرَبِ أَوَّلَ الصُّبْحِ بِالْخَيْطِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ:
وَلَمَا تَبَدَّتْ لَنَا سُدْفَةٌ ... وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
وَمِنْهُ قَوْلُ كَمَالِ الدَّيْنِ بْنِ النَّبِيهِ الشَّاعِرِ فِي الْخَمْرِ وَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْعَقِيمِ:
وَتُرِيكَ خَيْطَ الصُّبْحِ مَفْتُولًا إِذَا ... صُبَّتْ مِنَ الرَّاوُوقِ فِي الطَّاسَاتِ
وَلَكِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يَصْدُقُ بِالْفَجْرِ الْكَاذِبِ وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَا يَظْهَرُ فِي الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ أَوْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَصَحَّ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمُوا أَوَّلًا أَنَّ الْخَيْطَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا حَتَّى بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا النَّهَارُ وَاللَّيْلُ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) وَلَمْ يَنْزِلْ (مِنَ الْفَجْرِ) فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللهُ بَعْدُ (مِنَ الْفَجْرِ) فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ بِاسْتِبْعَادِ تَأَخُّرِ نُزُولِ هَذَا الْبَيَانِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ نُزُولِ الْآيَاتِ. وَالْعُمْدَةُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْمَرْفُوعُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمَهُ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: ((إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ)) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَضَحِكَ وَقَالَ: ((أَنْ كَانَ وِسَادُكَ إِذًا لَعَرِيضًا أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ)) وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ ((إِنَّ وِسَادَكَ لِعَرِيضٌ طَوِيلٌ)) وَيُحْمَلُ قَوْلُ عَدِيٍّ فِي الْآيَةِ: ((لَمَّا نَزَلَتْ)) عَلَى عِلْمِهِ بِنُزُولِهَا لِتَأَخُّرِ إِسْلَامِهِ عَنْهُ. وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تُوَضِّحُ هَذَا ; فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ
وَالصِّيَامَ قَالَ لَهُ: ((فَكُلْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)) قَالَ: فَأَخَذْتُ خَيْطَيْنِ إِلَخِ الْحَدِيثِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute