للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السِّعَايَةُ وَالْمَحَلُّ، يُدْرِكُ الْعَقْلُ مَا فِيهِ مِنِ الضَّرَرِ وَالْقُبْحِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رَأَى لِنَفْسِهِ فَائِدَةً مِنَ السِّعَايَةِ بِشَخْصٍ زَيَّنَهَا لَهُ هَوَاهُ فَيَرَاهَا حَسَنَةً مِنْ حَيْثُ يَخْفَى عَلَيْهِ ضَرَرُهَا لِذَاتِهَا، وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْحَشِيشِ، وَقَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ مَضَرَّتَهُمَا فِي غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الشَّهْوَةَ تَحْجُبُهُ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَيُؤْثِرُ حُكْمَ لَذَّتِهِ عَلَى حُكْمِ عَقْلِهِ الَّذِي يَنْهَاهُ عَنْ كُلِّ ضَارٍّ، فَصَارَ مُحْتَاجًا إِلَى مُعَلِّمٍ آخَرَ يَنْصُرُ الْعَقْلَ عَلَى الْهَوَى، وَوَازِعٍ يَكْبَحُ مِنْ جِمَاحِ الشَّهْوَةِ لِيَكُونَ عَلَى هُدًى.

فَمَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ لَا يُطَالَبُ الْأَنْبِيَاءُ بِبَيَانِهِ، وَمُطَالَبَتُهُمْ بِهِ جَهْلٌ بِوَظِيفَتِهِمْ، وَإِهْمَالٌ لِلْمَوَاهِبِ وَالْقُوَى الَّتِي وَهَبَهُ اللهُ إِيَّاهَا لِيَصِلَ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يُطَالَبُونَ بِمَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْبَشَرِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ بَعْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (٢: ٥٥) وَأَمَّا مَا كَانَ إِدْرَاكُهُ لَيْسَ مُمْكِنًا، وَكَسْبُهُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ مُتَعَذِّرًا أَوْ تَحْدِيدُهُ مُتَعَسِّرًا، فَهُوَ الَّذِي نَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى هَادٍ يُخْبِرُ

عَنِ اللهِ تَعَالَى لِنَأْخُذَهُ عَنْهُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ ; وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الرَّسُولَ عَقْلٌ لِلْأُمَّةِ، وَهِدَايَةٌ وَرَاءَ هِدَايَةِ الْحَوَّاسِ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ.

لَوْ كَانَ مِنْ وَظِيفَةِ النَّبِيِّ أَنْ يُبَيِّنَ الْعُلُومَ الطَّبِيعِيَّةَ وَالْفَلَكِيَّةَ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ تُعَطَّلَ مَوَاهِبُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَيُنْزَعَ الِاسْتِقْلَالُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَيُلْزِمَ بِأَنْ يَتَلَقَّى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ كُلَّ شَيْءٍ بِالتَّسْلِيمِ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرُّسُلِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ كَافِيًا لِتَعْلِيمِ أَفْرَادِهَا فِي كُلِّ زَمَنٍ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: لَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْإِنْسَانُ هَذَا النَّوْعَ الَّذِي نَعْرِفُهُ، نَعَمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُنَبِّهُونَ النَّاسَ بِالْإِجْمَالِ إِلَى اسْتِعْمَالِ حَوَاسِّهِمْ وَعُقُولِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَزِيدُ مَنَافِعَهُمْ وَمَعَارِفَهُمُ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا نُفُوسُهُمْ، وَلَكِنْ مَعَ وَصْلِهَا بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيَزِيدُ فِي الْعِبْرَةِ. وَقَدْ أَرْشَدَنَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى وُجُوبِ اسْتِقْلَالِنَا دُونَهُ فِي مَسَائِلِ دُنْيَانَا فِي وَاقِعَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ إِذْ قَالَ: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ)) وَمِنْ هَاهُنَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ خَطَأً، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُجِيبَ السَّائِلِينَ بِقَوْلِهِ: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١٧: ٨٥) أَيْ: إِنَّهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا يُسْأَلُ النَّبِيُّ عَنْهَا، كَمَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ عِلَّةِ اخْتِلَافِ أَطْوَارِ الْأَهِلَّةِ خَطَأً لَا تَصِحُّ مُجَارَاةُ السَّائِلِ عَلَيْهِ بَلْ عَدَّهُ الْقُرْآنُ مِنْ قَبِيلِ إِتْيَانِ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا كَمَا فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنِ التَّارِيخَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَسْهُلُ عَلَى الْبَشَرِ تَدْوِينُهَا وَالِاسْتِغْنَاءُ بِهَا عَنِ الْوَحْيِ فَلِمَاذَا كَثُرَ سَرْدُ الْأَخْبَارِ التَّارِيخِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَكَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ أَكْثَرَ؟ وَالْجَوَابُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مِنَ التَّارِيخِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَصَصٌ وَأَخْبَارٌ لِلْأُمَمِ أَوِ الْبِلَادِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ الْآيَاتُ وَالْعِبَرُ تَجَلَّتْ فِي سِيَاقِ الْوَقَائِعِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ، لِبَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، إِنْذَارًا لِلْكَافِرِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَثْبِيتًا لِقَلْبِهِ وَقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ - وَسَتَرَى ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَلِذَلِكَ لَمْ تُذْكَرْ قِصَّةٌ بِتَرْتِيبِهَا وَتَفَاصِيلِهَا، وَإِنَّمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>