كِتَابِ اللهِ، وَأَمَّا الْمَسْنُونُ مِنْ أَعْمَالِهِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَمَا صَحَّتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: ((وَقَفْتُ هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ)) وَفِي حَدِيثِهِ عِنْدَهُ أَيْضًا ((أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَا (أَيْ: نَاقَتُهُ الْمَجْدُوعَةُ
وَهَذَا اسْمُهَا وَهُوَ بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ وَيُمَدُّ) حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا اللهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَلَّهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ)) الْحَدِيثَ - وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ هُوَ قُزَحٌ وَأَنَّ الذِّكْرَ غَيْرُ صَلَاةِ الْعِشَاءَيْنِ جَمْعًا، وَالْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ ((وَتُسَمَّى جَمْعًا)) مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا تَرَكُوهُ بَعْدَ الْمَبِيتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَبِيتَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا لَا يُخْشَى التَّهَاوُنُ فِيهِ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يُبَيِّنْ كُلَّ الْمَنَاسِكِ بَلِ الْمُهِمَّ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَاقِيَ بِالْعَمَلِ.
ثُمَّ قَالَ: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أَيْ: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا كَمَا هَدَاكُمْ هِدَايَةً حَسَنَةً إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَاتِّخَاذِ الْوُسَطَاءِ كَمَا كُنْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَذْكُرُونَهُ مَعَ مُلَاحَظَةِ غَيْرِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ لَا يَفْرَغُ قَلْبُكُمْ لَهُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ لَا لِلتَّعْلِيلِ كَمَا قِيلَ (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) أَيْ: وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ زُمْرَةِ الضَّالِّينَ عَنِ الْحَقِّ فِي عَقَائِدِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الرَّاسِخِينَ فِي الضَّلَالِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ اللهِ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ دُونَ الْخَيَالِ الَّذِي كُنْتُمْ تَدْعُونَهُ إِلَهًا، وَتَجْعَلُونَ لَهُ وُسَطَاءَ شُرَكَاءَ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُونَ عِنْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْخَيَالَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَلَا بَأْسَ بِجَعْلِ ضَمِيرِ (قَبْلِهِ) لِلْهُدَى كَمَا قَالَ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ لَسَبْقِ فِعْلِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمُ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) (٩٧: ١) .
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) جَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ الْخِطَابَ هُنَا لِقُرَيْشٍ خَاصَّةً، إِذْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: ((أَنَّ قُرَيْشًا وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ - وَهُمُ الْحُمْسُ - كَانُوا يَقِفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمُزْدَلِفَةَ تَرَفُّعًا عَنِ الْوُقُوفِ مَعَ الْعَرَبِ فِي عَرَفَاتٍ، فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفُ بِهَا ثُمَّ يَفِيضُ مِنْهَا)) أَيْ إِبْطَالًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْإِفَاضَةِ: الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَاتٍ كَالْأُولَى قَالَ: وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ. وَأَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا ; لِأَنَّ الْأُسْلُوبَ
يُنَافِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَاتِ كُلِّهَا عَامٌّ. قَالَ: وَهُمْ يَذْكُرُونَ هَذَا كَثِيرًا وَلَا يَذْكُرُونَ لَهُ نُكْتَةً تُزِيلُ التَّفَاوُتَ مِنَ النَّظْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ قَالَ هَذَا كَأَنَّ الْمَعْنَى هَكَذَا: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَكُمْ مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute