نَعَمْ. قَالَ: ((فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ.
وَلَكِنَّ الَّذِي يُنَافِي مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى وَيُنَافِي سَعَادَةَ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ هُوَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ الْمَرْءُ فِي سَبِيلِ حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ خَارِجَ الْحُدُودِ الْمَشْرُوعَةِ فَيُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُبَالِيَ أَنْ يَهْلِكَ بِإِفْسَادِهِ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَبِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ
إِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ لِذَلِكَ، فَكَيْفَ إِذَا أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَجِهَادِ أَعْدَاءِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ عِنْدَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمَا، أَوِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فَرْضًا عَيْنِيًّا عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِمَالِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِهِمَا مَعًا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَسَبِيلُ اللهِ هِيَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَهِيَ الَّتِي يَحْفَظُ بِهَا دِينَهُ وَيُصْلِحُ بِهَا حَالَ عِبَادِهِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي مِنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِالْحَلَالِ، وَيَتَمَتَّعَ بِالْحَلَالِ، وَيَنْفَعَ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرَّ غَيْرَهُ، وَأَنْ يُصَلِّيَ وَيَصُومَ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا يَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ أَوْسَعَ وَعَمَلُهُ أَشْمَلَ وَأَنْفَعَ، فَيُسَاعِدَ عَلَى نَفْعِ النَّاسِ وَدَرْءِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَتَعْزِيزِ الْأُمَّةِ بِالْمَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَمُقَاوَمَةِ الشَّرِّ، وَلَوْ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى بَذْلِ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَّرَ فِي وَاجِبٍ يَتَعَلَّقُ بِحِفْظِ الْمِلَّةِ وَعِزَّةِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَقَدْ آثَرَ نَفْسَهُ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَخَرَجَ مِنْ زُمْرَةِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ أَكْبَرَ إِجْرَامًا مِمَّنْ يُقَصِّرُ فِي وَاجِبٍ لَا يَضُرُّ تَقْصِيرُهُ فِيهِ إِلَّا بِنَفْسِهِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ هِيَ أَنْ تَرْتَقِيَ وَيَتَّسِعَ وُجُودُهَا فِي الدُّنْيَا، فَيَعْظُمَ خَيْرُهَا وَيَنْتَفِعَ النَّاسُ بِهَا، وَتَكُونُ فِي الْآخِرَةِ أَهْلًا لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى مَعَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَجَعَلُوا أَكْثَرَ أَعْمَالِهِمْ خِدْمَةً لِلنَّاسِ وَسَعْيًا فِي خَيْرِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِ أَنْفُسَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْخَسِيسَةِ; لِأَجْلِ نَفْعِهِ سُبْحَانَهُ أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ جَلَّ شَأْنُهُ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا شَرَعَ هَذَا لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ بِاتِّسَاعِ وُجُودِهِ وَعُمُومِ نَفْعِهِ سَيِّدَ النَّاسِ، فَلْيَعْرِضْ مُدَّعُو الْإِيمَانِ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ وَآثَرُوا مَرْضَاتِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَلْيَعْرِضْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُنْصِفِينَ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ وَاسِعُ الْوُجُودِ خَادِمٌ لِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، لَا جَرَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩: ١٤) فَإِنَّ مَعْنَى أَسْلَمْنَا انْقَدْنَا لِأَحْكَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ وَأَخَذْنَا بِأَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ.
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ تُعْجِبُكَ أَقْوَالُهُمْ مِنْ صِنْفِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ
وَلَا يَصُومُونَ، وَلَا يُزَكُّونَ وَلَا يَحُجُّونَ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَيَأْتُونَ كَثِيرًا مِنَ الْكَبَائِرِ جِهَارًا، وَيُصِرُّونَ عَلَيْهَا إِصْرَارًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute