للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي; أَيْ: يَبِيعُ نَفْسَهُ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى، وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ أَقْوَى فِي طَلَبِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ وَأَدُلُّ عَلَى تَقْرِيرِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِثَالِ الْمَأْمُورِينَ، وَالْإِخْبَارَ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ، فَالْقُرْآنُ يُصَوِّرُ الْمُؤْمِنِينَ عَامِلِينَ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ.

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا شَرَعَ هَذَا إِلَّا رَأْفَةً بِعِبَادِهِ فَقَالَ: (وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) إِذْ يَرْفَعُ هِمَمَ بَعْضِهِمْ وَيُعْلِي نُفُوسَهُمْ حَتَّى يَبْذُلُوهَا فِي سَبِيلِهِ لِدَفْعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ عَنْ عِبَادِهِ وَتَقْرِيرِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ فِيهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَغَلَبَ شَرُّ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا صَلَاحٌ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (٢: ٢٥١) وَإِنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ فِي إِزَالَةِ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ بَيْعَ النَّفْسِ يُؤْذِنُ بِتَرْكِ الدُّنْيَا، وَأَلَّا يُمَتِّعَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ بِلَذَّاتِهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ - وَهُوَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ - لَمَا قَرَنَهُ اللهُ تَعَالَى بِاسْمِهِ الرَّءُوفِ الدَّالِّ عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، فَيَالَلَّهُ مَا أَعْجَبَ بَلَاغَةَ كَلَامِ اللهِ، وَمَا أَعْظَمَ خِذْلَانَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هُدَاهُ.

وَمِنَ الدِّقَّةِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ الْمُوجَزِ بَيَانُ حَقِيقَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي النَّاسِ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِلْعِبَادِ لَا خَاصَّةٌ بِهِمْ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِعَمَلِ الْمُصْلِحِينَ مِنْ دُونِهِمْ; إِذْ تُظْهِرُ ثَمَرَاتُ إِصْلَاحِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِنَّ عَلَى مَنْ يَبْذُلُ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى فِي نَفْعِ عِبَادِهِ أَلَّا يَتَهَوَّرَ وَيُلْقِيَ بِنَفْسِهِ فِي التَّهْلُكَةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا يُقَدِّرُ الْأُمُورَ بِقَدْرِهَا; إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الشِّرَاءِ إِهَانَةَ النَّفْسِ وَلَا إِذْلَالَهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ دَفْعُ الشَّرِّ وَتَقْرِيرُ الْخَيْرِ الْعَامِّ رَأْفَةً بِالْعِبَادِ، وَإِيثَارًا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ. وَإِنَّ أُمَّةً يَتَّصِفُ جَمِيعُ أَفْرَادِهَا أَوْ أَكْثَرُهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ لَجَدِيرَةٌ بِأَنْ تَسُودَ الْعَالَمِينَ، وَكَذَلِكَ سَادَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ، وَإِنَّ أُمَّةً تُحْرَمُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ لَخَلِيقَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَعْبَدَةً لِجَمِيعِ الْمُتَغَلِّبِينَ، وَكَذَلِكَ اسْتُعْبِدَ خَلَفُنَا الطَّالِحُونَ، فَهَلْ نَحْنُ مُعْتَبِرُونَ؟

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

<<  <  ج: ص:  >  >>