مِمَّا يَهْوَوْنَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ; إِذِ اتِّفَاقُ كَلِمَةِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَاجْتِمَاعُهَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ كَذَا بِدَلِيلِ كَذَا مُلْزِمٌ لِلْحَاكِمِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِيهِ; لِأَنَّ الْخَوَاصَّ إِذَا اتَّحَدُوا تَبِعَهُمُ الْعَوَامُّ، وَهَذِهِ هِيَ الْوَسِيلَةُ الْفَرْدَةُ لِإِبْطَالِ اسْتِبْدَادِ الْحُكَّامِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُؤَيَّدٌ بِالنَّعْيِ عَلَى الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، وَالْإِنْكَارِ عَلَى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ; أَيْ: يَعْمَلُونَ بِبَعْضِهِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ وَيَتْرُكُونَ بَعْضًا بِتَأْوِيلٍ أَوْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، كَشَأْنِ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ. فَوُجُوبُ أَخْذِ الْقُرْآنِ وَالدِّينِ بِجُمْلَتِهِ، وَفَهْمِ هِدَايَتِهِ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ثَبَتَ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي ذَاتِهِ، سَوَاءٌ فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ أَوْ لَا; لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا آنِفًا فِي جَعْلِ الْقُرْآنِ عِضِينَ، وَفِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ النُّصُوصِ تُثْبِتُهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ (كَافَّةً) تَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا; أَيِ: ادْخُلُوا
فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا لَا يَتَخَلَّفُ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَصْرِفُ نِدَاءَ (الَّذِينَ آمَنُوا) إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - أَيْ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَالْوَحْيِ - حَتَّى لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ أَمْرُ الْمُؤْمِنِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَوَجْهُ اللُّزُومِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ مَعَ إِذْعَانِ النَّفْسِ، فَمَنْ صَدَّقَ بِالشَّيْءِ وَأَذْعَنَ لَهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي أَعْمَالِهِ وَانْقَادَ لِأَحْكَامِهِ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ: إِنَّ الْعِلْمَ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ خَطَأٌ; فَالْعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ الْإِذْعَانِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ فِي مَوْضُوعِهِ عِلْمٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَمَّا الْعِلْمُ التَّصَوُّرِيُّ وَالْعِلْمُ النَّظَرِيُّ الْمُعَارَضُ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَوْ نَظَرِيٍّ أَقْوَى مِنْهُ فَلَا يُوجِبَانِ الْعَمَلَ.
وَقَدْ صَرَّحَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَّالِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْعَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ صَاحِبُ الْمُوَافَقَاتِ بِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ، وَالْحَقَّ التَّفْصِيلَ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَآيَاتُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَمُعَزِّزَةٌ لَهُ، وَيَدُلُّ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَثَعْلَبَةُ وَابْنُ يَامِينَ وَأَسَدُ وَأُسَيْدُ ابْنَا كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنُ عُمَرَ وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ - كُلُّهُمْ مِنْ يَهُودَ -: يَا رَسُولَ اللهِ يَوْمَ السَّبْتَ نُعَظِّمُهُ فَدَعْنَا فَلْنُسْبِتْ فِيهِ، وَإِنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابُ اللهِ فَدَعْنَا فَلْنَقُمْ بِهَا بِاللَّيْلِ، فَنَزَلَتْ. فَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا لِلْيَهُودِ خَاصَّةً لَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَهِيَ تَنِمُّ عَلَى نَفْسِهَا فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْآيَةِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ السِّلْمِ، وَهُوَ الْمُسَالَمَةُ وَالْوِفَاقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ - أَخْذُ الدِّينِ بِجُمْلَتِهِ - لِأَنَّهُ أَمَرَ بِرَفْعِ الشِّقَاقِ وَالتَّنَازُعِ، وَبِالِاعْتِصَامِ بِحَبَلِ الْوَحْدَةِ، وَشَدِّ أَوَاخِي الْإِخَاءِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الشَّيْءُ إِلَّا بِرَفْعِ أَسْبَابِهِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِتَحَقُّقِ وَسَائِلِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (٣: ١٠٣) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) (٨: ٤٦)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute