للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ أَعْنَاقَ بَعْضٍ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ. وَقَدْ خَالَفْنَا كُلَّ هَذِهِ النُّصُوصِ فَتَفَرَّقْنَا وَتَنَازَعْنَا وَشَاقَّ بَعْضُنَا بَعْضًا بِشُبْهَةِ الدِّينِ، إِذِ اتَّخَذْنَا مَذَاهِبَ مُتَفَرِّقَةً، كُلُّ فَرِيقٍ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبٍ وَيُعَادِي سَائِرَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ

لِأَجْلِهِ، زَاعِمًا أَنَّهُ يَنْصُرُ الدِّينَ وَهُوَ يَخْذُلُهُ بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا سُنِّيٌّ يُقَاتِلُ شِيعِيًّا، وَهَذَا شِيعِيٌّ يُنَازِلُ إِبَاضِيًّا، وَهَذَا شَافِعِيٌّ يُغْرِي التَّتَارَ بِالْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا حَنَفِيٌّ يَقِيسُ الشَّافِعِيَّةَ عَلَى الذِّمِّيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ مُقَلِّدَةُ الْخَلَفِ، يُحَادُّونَ مَنِ اتَّبَعَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (٢٣: ٦٨) أَمْ أُمِرُوا بِهَذَا مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَمِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ؟ كَلَّا; بَلْ كَانَ التَّعَادِي وَالتَّنَازُعُ انْحِرَافًا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَاتِّبَاعًا لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَكَمَا خَالَفَ الْمُفَرِّقُونَ الْمُتَنَازِعُونَ رَبَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ خَالَفُوا مَا اتَّبَعَهُ بِهِ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، إِذْ قَالَ: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الْخُطُوَاتُ جَمْعُ خُطْوَةٍ - بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ - وَهُمَا مَا بَيْنَ قَدَمَيْ مَنْ يَخْطُو بِنَقْلِهِمَا فِي الْمَشْيِ; أَيْ: لَا تَسِيرُوا سَيْرَهُ وَتَتَّبِعُوا سُبُلَهُ فِي التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، أَوِ الْخِلَافِ وَالتَّنَازُعِ مُطْلَقًا. وَسُبُلُ الشَّيْطَانِ وَخُطُوَاتُهُ هِيَ كُلُّ أَمْرٍ يُخَالِفُ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّبُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦: ١٥٣) فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُ سَبِيلًا وَاحِدَةً سَمَّاهَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا; لِأَنَّهَا أَقْرَبُ طَرِيقٍ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالسَّلَامِ، وَأَنَّ هُنَاكَ سُبُلًا مُتَعَدِّدَةً يَتَفَرَّقُ مُتَّبِعُوهَا عَنْ ذَلِكَ الصِّرَاطِ وَهِيَ طُرُقُ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ عَلِمَ مَنْ جَعَلَ التَّفَرُّقَ تَابِعًا لِاتِّبَاعِ سُبُلٍ هِيَ غَيْرُ صِرَاطِ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ سَبِيلَ اللهِ لَا يَتَفَرَّقُونَ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (٦: ١٥٩) نَعَمْ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِمْ سَبَبُ الْخِلَافِ وَالتَّنَازُعِ وَلَكِنَّهُمْ مَتَى شَعُرُوا بِأَنَّ التَّنَازُعَ قَدْ دَبَّ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ فَزِعُوا إِلَى تَحْكِيمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ بِرَدِّهِ إِلَى حُكْمِهِمَا كَمَا أَمَرَهُمْ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (٤: ٥٩) أَيْ: مَآلًا وَعَاقِبَةً. فَالْآيَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا الْقُرْآنَ بِجُمْلَتِهِ كَمَا أُمِرْنَا.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَاتُ حُجَّةٌ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، وَيَا لَيْتَ أَصْحَابَ هَذَا الْأَصْلِ فَرَضُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِاجْتِمَاعَ لِكُلِّ

خِلَافٍ يَعْرِضُ لَهُمْ، وَالْبَحْثَ عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ فِيهِ بِلَا تَعَصُّبٍ وَلَا مِرَاءٍ، حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ لَمْ يَظْهَرْ لِبَعْضِهِمْ ثَابَرَ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى تِطْلَابِهِ بِإِخْلَاصٍ لَا يُعَادِي فِيهِ أَحَدًا، وَلَا يَجْعَلُهُ ذَرِيعَةً لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ.

طَرِيقُ الْحَقِّ هُوَ الْوَحْدَةُ وَالْإِسْلَامُ، وَطُرُقُ الشَّيْطَانِ هِيَ مُثَارَاتُ التَّفَرُّقِ وَالْخِصَامِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُ طُرُقَهُ وَيُسَوِّلُ لِلنَّاسِ الْمَنَافِعَ وَالْمَصَالِحَ فِي التَّفَرُّقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>