للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِخِلَافِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُحَكِّمُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ يُعَدُّ بَيَانًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ مُسْنَدٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ السَّلَفِ لَا عَذَابُهُ وَلَا يَوْمُهُ الْمَوْعُودُ، وَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَأَسْرَارُ الْمَعَارِفِ الْعُلْيَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ:

مِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ دِينِهِ إِيمَانًا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ فِي كِتَابِهِ، وَيَكُونُ فِي إِيمَانِهِ عَلَى حَقِّ الْيَقِينِ وَالِاطْمِئْنَانِ الَّذِي لَا زِلْزَالَ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابَ، وَأَهْلُ هَذَا الْيَقِينِ هُمُ الَّذِينَ يُقَالُ إِنَّ اللهَ حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا; لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ ثَبَتَتْ فِي عُقُولِهِمْ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ قَدْ لَابَسَ قُلُوبَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا الْيَقِينُ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ اللهَ عِنْدَهُمْ; لِأَنَّ مَا حَضَرَ فِي عَقْلِهِ هُوَ غَيْرُ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ، وَشَهِدَتْ بِهِ آيَاتُهُ فِي كِتَابِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا عِنْدَهُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الظُّنُونِ وَأَرْبَابُ الشُّكُوكِ، وَحَمَلَةُ التَّقَالِيدِ الَّذِينَ زَلُّوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابًا وَوُسَطَاءَ، وَشَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّئُونِ، فَهُمْ غَائِبُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَحْجُوبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ بِحَيْثُ لَا تَطُوفُ مَعْرِفَتُهُ الْحَقِيقَةُ بِعُقُولِهِمْ، وَلَا تُلَابِسُ عَظَمَتُهُ وَكَمَالُهُ قُلُوبَهُمْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَكُشِفَ الْحِجَابُ عَرَفُوا اللهَ رَبَّهُمُ الْحَقَّ، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، فَذَلِكَ إِتْيَانُ اللهِ لَهُمْ;

أَيْ: يَأْتِيهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ مَا كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهُ وَمَحْرُومِينَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِتْيَانُ يَكُونُ فِي الْمَعْقُولَاتِ كَمَا يَكُونُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ.

إِنَّ هَؤُلَاءِ الزَّالِّينَ عَنْ صِرَاطِ اللهِ تَعَالَى صِنْفَانِ: صِنْفٌ اعْتَقَدُوا الْبَاطِلَ حَقًّا فَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ وَرُجُوعَ كُلِّ أَمْرٍ إِلَى مَنْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ عَلَى سُنَنٍ ثَابِتَةٍ، وَلَا غَيْرَ التَّوْحِيدِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ. وَصِنْفٌ اتَّبَعُوا الظَّنَّ وَهَامُوا فِي أَوْدِيَةِ الْوَهْمِ، فَلَمْ يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَإِذَا مَا تَجَلَّى اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الَّتِي كَانَتْ دُونَهَا فِي سِجْنِ الْأَشْبَاحِ زَالَ جَهْلُ الْجَاهِلِينَ، وَانْكَشَفَ ظَنُّ الظَّانِّينَ، وَبَطَلَ وَهْمُ الْوَاهِمِينَ، وَعَرَفَ الْجَمِيعُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ الْيَقِينِ، فَذَلِكَ مَجِيءُ اللهِ تَعَالَى وَإِتْيَانُهُ فِي يَوْمِ الدِّينِ، هَذَا مَا تَجَلَّى بِهِ مَسْأَلَةُ الْإِتْيَانِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ.

وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي قُلْنَا مِرَارًا إِنَّنَا لَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا، فَكَوْنُ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْيَقِينِ بِهِ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْجَاهِلِينَ وَالْغَافِلِينَ بِحُصُولِ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ نُفَوِّضُ سِرَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْغَمَامِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَحُجَجًا بَاهِرَاتٍ، وَإِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ; لِأَنَّ الْمَقَامَ

<<  <  ج: ص:  >  >>