للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَقَامُ تَمْثِيلِ ظُهُورِ سُلْطَانِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَاسْتِغْرَاقِ الْقُلُوبِ فِي الْخُضُوعِ لِجَلَالِهِ عِنْدَمَا يَغْشَاهَا نُورُ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُضُورَ الْمَلِكِ فِي جُنْدِهِ الْأَكْبَرِ، هُوَ أَبْيَنُ لِكَمَالِ الْعَظَمَةِ وَأَظْهَرُ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٨٩: ٢٢) وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّبَأِ: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) (٧٨: ٣٨) .

وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَقْرِيبُ هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الْأَفْهَامِ، وَلَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِتْيَانِ فِي الْغَمَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْغَمَامَ فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ أَوِ الرِّدَاءِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ((وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ)) وَبَيَانُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((سَأَلْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ)) .

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ الْحُجُبَ; أَيِ: الْمَوَانِعَ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ كَثِيرَةٌ أَكْثَفَهَا نَفْسَهُ، وَهَذِهِ الْحُجُبُ تُزَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا حِجَابًا وَاحِدًا، فَيَعْرِفُونَ الْحَقَّ مَعْرِفَةً كَامِلَةً تَسْتَغْرِقُ الرُّوحَ. وَذَلِكَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ وَبِمَجِيءِ اللهِ وَإِتْيَانِهِ.

فَالْغَمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ التَّمْثِيلِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ كَمَالُ الْمَعْرِفَةِ الْمُمْكِنَةِ بِدُونِهِ، وَبِذَلِكَ تَتَّفِقُ الْآيَاتُ مَعَ الْأَحَادِيثِ (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (١٦: ٦٠) وَ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤٢: ١١) .

وَلَنَا أَنْ نَقُولَ - عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَعَ تَفْسِيرِنَا الْغَمَامَ بِمَادَّةِ التَّكْوِينِ الْأُولَى كَمَا مَرَّ -: إِنَّ الْحُجُبَ - الَّتِي تَشْغَلُ الْإِنْسَانَ عَنْ رَبِّهِ فِي الدُّنْيَا؛ حُظُوظَ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَشَوَاغِلَ الْحِسِّ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَالْفِكْرِ بِالْمُدْرَكَاتِ كُلَّهَا - تَرْتَفِعُ فَلَا تَعُودُ حَائِلَةً دُونَ كَمَالِ الْعِلْمِ بِاللهِ تَعَالَى، مَا خَلَا سِرَّ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ الْأَوَّلِ؛ مِمَّ كَانَ؟ وَبِمَ كَانَ؟ وَكَيْفَ كَانَ؟ فَهَذَا لَا يَرْتَفِعُ فِي الدُّنْيَا لِلْمُوقِنِينَ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِلْمُقَرَّبِينَ.

هَذَا، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ وَالْمُنْطَبِقُ عَلَى الْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي نُذُرِ الْقِيَامَةِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا عِبْرَةٌ وَهِدَايَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الْمُرْتَابُونَ الْمُمَارُونَ فَلَا يَزِيدُهُمُ الْكَلَامُ عَنِ الْآخِرَةِ إِلَّا ظُلْمَةً وَرِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ; لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ فِي حِسِّهِمْ حَتَّى عَنْ نَفْسِهِمْ وَ (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٢٣: ٥٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>