للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيَزْعُمُ آخَرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ: أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَأُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِكُتُبٍ تُهَذِّبُهُمْ، كَمَا أُرْسِلَ دَاوُدُ بِزَبُورِهِ وَعِيسَى بِإِنْجِيلِهِ لِيَرُدُّوهُمْ إِلَى الْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلنَّاسِ وَلِلنَّبِيِّينَ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ كَمَا لَا يَخْفَى.

قَالَ ابْنُ الْعَادِلِ نَقْلًا عَنِ الْقُرْطُبِيِّ: وَلَفْظَةُ (كَانَ) عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى بَابِهَا مِنَ الْمُضِيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلثُّبُوتِ، وَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ هُمُ الْجِنْسُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي خُلُوِّهِمْ عَنِ الشَّرَائِعِ وَجَهْلِهِمْ بِالْحَقَائِقِ، لَوْلَا أَنَّ اللهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ تَفَضُّلًا مِنْهُ فَلَا تَخْتَصُّ بِالْمُضِيِّ فَقَطْ، بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ: (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (٤: ١٥٢) اهـ.

وَقَدْ قَارَبَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَذْهَبُ الذِّهْنُ إِلَيْهِ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ لَوْلَا مَا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الضُّرُوبِ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَتَفَرَّقَ بِهِ السُّبُلُ وَيَكَادُ يَضِلُّ السَّبِيلَ، وَنَحْنُ ذَاكِرُونَ لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ مَا يُجْلِي الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مُقْتَفِينَ أَثَرَ ابْنِ الْعَادِلِ وَالْقُرْطُبِيِّ فِيمَا قَالَاهُ فِي مَعْنَى (كَانَ) وَأَنَّهَا لِلثُّبُوتِ لَا لِلْمُضِيِّ، غَيْرَ أَنَّا نُقَدِّمُ لَكَ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ وَصْفِ الْأُمَّةِ بِالْوَاحِدَةِ، وَالْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي مَوَاضِعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ; لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ تَوْضِيحٌ لِمَا نَقْصِدُ، وَسَنَدٌ لَنَا فِيمَا إِلَيْهِ نَعْمِدُ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ.

وَرَدَ وَصْفُ الْأُمَّةِ بِالْوَاحِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا

رَاجِعُونَ) (٢١: ٩٢، ٩٣) جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) إِلَخْ، بَعْدَ ذِكْرِ جَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، ذِكْرِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَا كَانَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ مَعَهُمْ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقَوْنِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٢٣: ٥١ - ٥٣) وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ (أُمَّةً) بِالنَّصْبِ فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى الْحَالِ، وَالْخَبَرُ قَدْ تَمَّ فِي قَوْلِهِ: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) أَيْ: هَذَا الْجَمْعَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أُمَّتُكُمْ، أَيْ: جَمَاعَتُكُمْ حَالَ أَنَّهَا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، أَيْ: لَيْسَ جَمْعًا تَرْبِطُهُ الرَّوَابِطُ الْبَعِيدَةُ، كَمَا يُقَالُ أُمَّةُ الْهِنْدِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهَا وَتَفَرُّقِ كَلِمَتِهَا، بَلْ هِيَ أُمَّةٌ تَرْبِطُهَا رَابِطَةٌ قَرِيبَةٌ هِيَ رَابِطَةُ الِاهْتِدَاءِ بِنُورِ اللهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَالْقِيَامِ عَلَى شَرْعِهِ وَحِمْلِ النَّاسِ عَلَى اتِّبَاعِ أَحْكَامِهِ، فَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ هُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ; فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْأُمَّةَ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ فِي الْآيَتَيْنِ، يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُخْبِرُ الْمُرْسَلِينَ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي سَبَقَ فِي الْكَلَامِ مِنَ السَّيْرِ فِي النَّاسِ بِهِدَايَةِ اللهِ وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ تَكْذِيبٍ أَوْ تَثْرِيبٍ أَوْ تَعْذِيبٍ، هَذِهِ هِيَ مِلَّتُكُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>