وَدِينُكُمْ وَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، يَأْتِي بِهِ السَّابِقُ وَيَتِّبِعُهُ عَلَيْهِ اللَّاحِقُ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ نَبِيٌّ عَنْ نَبِيٍّ وَلَا يُنَاكِرُ فِيهِ مُرْسَلٌ مُرْسَلًا.
هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْوَحْدَةِ هُوَ الَّذِي جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١: ١١٨، ١١٩) وَفِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (٤٢: ٨) أَيْ: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَخَلَقَ النَّاسَ عَلَى غَرِيزَةٍ تَمِيلُ إِلَى الْحَقِّ، وَفِطْرَةٍ يَسْطَعُ فِيهَا نُورُ الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ بِدُونِ حِجَابٍ مِنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ أَوْ ظُلْمَةِ الْفِكْرِ وَسِتْرِ الْغِوَايَةِ، فَكَانُوا جَمِيعًا عَلَى مِثَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَكَانُوا بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَسُكَّانِ دَارِ النَّعِيمِ، وَلَكِنْ
قَضَى رَبُّكَ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَانَ إِنْسَانًا يَكِلُهُ إِلَى فِكْرِهِ، وَيَدَعُهُ إِلَى سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ، فَلَا يَزَالُ يَتَخَبَّطُ فِي الِاخْتِلَافِ، وَسَيَجُرُّهُمُ الِاخْتِلَافُ إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ بَعْدَ الْخِزْيِ فِي دَارِ الْفَنَاءِ، إِلَّا أُولَئِكَ الَّذِينَ رَحِمَهُمْ رَبُّكَ مِنْ هُدَاةِ الْعَالَمِينَ، وَقَادَةِ النَّاسِ إِلَى خَيْرِ الدَّارَيْنَ، وَمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِسُنَّتِهِمْ، فَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ بَعْدَ مَا شَمِلَ الظَّالِمِينَ بِسَخَطِهِ وَنِقْمَتِهِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطُّ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى الْخَيْرِ وَالْهُدَى; لِأَنَّ اللهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى غَرِيزَةٍ تَبْعُدُ بِهِ عَنِ الِاتِّحَادِ عَلَى الْحَقِّ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَدْلِ، وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى الضَّلَالِ كَمَا تَرَاهُ مِنْ صَرِيحِ النَّسَقِ الشَّرِيفِ، فَكَانَ النَّاسُ - وَلَا يَزَالُونَ - مِنْهُمُ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ، وَالْمُهْتَدِي وَالضَّالُّ، سُنَّةُ اللهِ فِي هَذَا الْخَلْقِ.
لَكِنَّكَ تَجِدُ فِي سُورَةِ يُونُسَ نَصًّا صَرِيحًا فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَاءَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٠: ١٩) وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَحْمِلَ (كَانَ) عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ الْمُضِيِّ; لِأَنَّ الْحَصْرَ يُبْعِدُ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا وَلَا يَزَالُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَنَشَأَ عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ نَفْسِهَا اخْتِلَافُهُمْ، وَكَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ يَقْضِي فِي الْخِلَافِ بِإِهْلَاكِ مَنْ يَنْحَرِفُ مِنْهُمْ عَنْ سَبِيلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ فَلَا يَبْقَى مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ وَثَبَتَ فِي عِلْمِهِ وَتَمَّ فِي مَشِيئَتِهِ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ فِي أَمْرِهِمْ كَاسِبِينَ لِسَعْيِهِمْ، مُكَلَّفِينَ بِالنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الضَّالُّ وَالْمُهْتَدِي وَالْعَادِلُ وَالْمُعْتَدِي حَتَّى يُوَفِّيَ كُلًّا جَزَاءَهُ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى; وَلِهَذَا بَعَثَ فِيهِمُ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَكُونُوا لَهُمْ أَئِمَّةً فِي الْإِيمَانِ وَأُسْوَةً فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute