للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَهَلْ يُمْكِنُكَ مَعَ هَذَا أَنْ تَحْمِلَ وَحْدَةَ الْأُمَّةِ عَلَى وَحْدَةِ الْعَقِيدَةِ وَالْعَمَلِ، كَمَا حَمَلْتَهَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الْأُخَرِ؟ لَيْسَ ذَلِكَ بِمُمْكِنٍ; لِأَنَّ النَّاسَ لَيْسُوا أُمَّةً وَاحِدَةً بِذَلِكَ الْمَعْنَى بَلْ هُمْ مُخْتَلِفُونَ، فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ ذَلِكَ الَّذِي نَخْتَارُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.

خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ أُمَّةً وَاحِدَةً; أَيْ: مُرْتَبِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْمَعَاشِ لَا يَسْهُلُ عَلَى أَفْرَادِهِ أَنْ يَعِيشُوا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ لَهُمْ إِلَّا مُجْتَمِعِينِ يُعَاوِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعِيشُ وَيَحْيَا بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، لَكِنَّ قُوَاهُ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ تَوْفِيَتِهِ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْضِمَامِ قُوَى الْآخَرِينَ إِلَى قُوَّتِهِ فَيَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي بَعْضِ شَأْنِهِ، كَمَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي بَعْضِ شَأْنِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: (الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ) يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُوهَبْ مِنَ الْقُوَى مَا يَكْفِي لِلْوُصُولِ إِلَى جَمِيعِ حَاجَاتِهِ، بَلْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ تَكُونَ مَنْزِلَةُ أَفْرَادِهِ مِنَ الْجَمَاعَةِ مَنْزِلَةَ الْعُضْوِ مِنَ الْبَدَنِ، لَا يَقُومُ الْبَدَنُ إِلَّا بَعَمَلِ الْأَعْضَاءِ، كَمَا لَا تُؤَدِّي الْأَعْضَاءُ وَظَائِفَهَا إِلَّا بِسَلَامَةِ الْبَدَنِ.

فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا بِمُقْتَضَى فِطَرِهِمْ إِلَّا كَذَلِكَ، وَهُمْ إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى آرَائِهِمْ، وَيَنْحَوْنَ فِي أَعْمَالِهِمْ نَحْوَ الْمَنَافِعِ الَّتِي يُرَوْنَهَا لَازِمَةً لِقِوَامِ مَعِيشَتِهِمْ، وَلَنْ يُمْنَحُوا مِنْ قُوَّةِ الْإِلْهَامِ مَا يُعَرِّفُ كُلًّا مِنْهُمْ وَجْهَ الْمُصْلِحَةِ فِي حِفْظِ حَقِّ غَيْرِهِ، لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ، لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ كَانَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَتَرْتِيبُ بَعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ النَّاسَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَعِيشُوا تَحْتَ نِظَامٍ وَاحِدٍ يَكْفُلُ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مُدَّةَ بَقَائِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَضْمَنُ لَهُمْ مَا بِهِ يَسْعَدُونَ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى، وَلَا يُمْكِنُهُمْ فِي هَذِهِ الْوَحْدَةِ وَمَعَ تِلْكَ الْوَصْلَةِ اللَّازِمَةِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَحْدِيدِ ذَلِكَ النِّظَامِ مَعَ اخْتِلَافِ الْفِطَرِ وَتَفَاوُتِ الْعُقُولِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ الْإِلْهَامِ الْهَادِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ، لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ كَانَ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، يُبَشِّرُونَهُمْ بِالْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِذَا لَزِمَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا حُدِّدَ لَهُ وَاكْتَفَى بِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَعْتَدِ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ، وَيُنْذِرُونَهُمْ بِخَيْبَةِ الْأَمَلِ وَحُبُوطِ الْعَمَلِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ إِذَا اتَّبَعُوا شَهَوَاتِهِمُ الْحَاضِرَةَ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْعَاقِبَةِ.

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَتْ بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِيمَا سَبَقَهَا مِنَ الْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ

وَالْأَخْبَارِ السَّمَاوِيَّةِ. أَمَرَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَهُوَ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ السَّلَامُ، وَعَلَى أَحَدِهَا الْإِسْلَامُ، وَالسَّلَامُ: هُوَ الْوِفَاقُ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ نِزَاعٌ، وَلَا يَلِيقُ بِمَنْ جَاءَتْهُ الْهِدَايَةُ مِنْ رَبِّهِ، تُبَيِّنَ لَهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يَسْلُكُهُ فِي مُعَامَلَةِ إِخْوَانِهِ وَمَنْ يَرْتَبِطُ مَعَهُ بِرَابِطَةٍ بَعِيدَةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>