للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوْ قَرِيبَةٍ مِنَ النَّاسِ، أَنْ يَنْحُوَ فِي عَمَلِهِ نَحْوَ مَا يَدْعُو إِلَى الْخِلَافِ وَيُثِيرُ النِّزَاعَ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عِنْدَمَا حَدَّدَتْهُ هِدَايَةُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَالسَّنَنِ النَّبَوِيِّ، وَالْإِسْلَامُ كَذَلِكَ يَدْعُو إِلَى السَّلَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ مَا يَقَعُ مِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّاسِ وَيَحْرِمُهُمْ حِيطَةَ النِّظَامِ فَقَالَ: (زُيِّنَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ: إِنَّ جَاحِدَ الْحَقِّ وَالْمُعْرِضَ عَنْ هِدَايَةِ اللهِ لَهُ الَّتِي يَسُوقُهَا إِلَيْهِ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ إِنَّمَا يُنْظَرُ فِي عَمَلِهِ إِلَى مَا يُوَفِّرُ عَلَيْهِ لِذَاتِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَهُوَ لَا يَسْعَى إِلَّا إِلَى لَذَّةٍ عَاجِلَةٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى عَاقِبَةٍ آجِلَةٍ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ كَانَ أَمْرُهُ اخْتِلَافًا وَشِقَاقًا وَرِيَاءً وَنِفَاقًا.

ثُمَّ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الِاهْتِدَاءَ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ ضَرُورِيٌّ لِلْبَشَرِ، وَأَنَّهُ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ مَهْمَا بَلَغُوا مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَضَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يَرْتَبِطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلَا سَبِيلَ لِعُقُولِهِمْ وَحْدَهَا إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَا يَلْزَمُ لَهُمْ فِي تَوْفِيرِ مَصَالِحِهِمْ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَيَّدَهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى الْقَادِرِ عَلَى إِثَابَتِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ، الْعَالِمِ بِمَا يَخْطِرُ فِي ضَمَائِرِهِمُ، الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ سَرَائِرِهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ بَعْدَ وَصْفِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْمُبَشِّرِينَ الْمُنْذِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّبْشِيرَ وَالْإِنْذَارَ عَمَلٌ يَسْبِقُ إِنْزَالَ الْكُتُبِ وَهُوَ حَقٌّ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَوَّلَ مَا يُبْعَثُونَ يُنَبِّهُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ، وَيُحَذِّرُونَهُمْ عَاقِبَةَ مَا يَكُونُونَ فِيهِ مِنْ عَادَةٍ سَيِّئَةٍ أَوْ خَلْقٍ قَبِيحٍ أَوْ عَمَلٍ غَيْرِ صَالِحٍ، فَإِذَا تَهَيَّأَتِ الْأَذْهَانُ لِقَبُولِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَتَحْدِيدِ الْحُدُودِ، أَنْزَلَ اللهُ الْكُتُبَ لِبَيَانِ مَا يُرِيدُ حَمْلَ النَّاسِ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ

صَالِحٌ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِمْ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ) وَعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ مَا يُفِيدُ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مَعَ كُلِّ نَبِيٍّ كِتَابًا - مُعْجِزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعْجِزٍ طَوِيلًا كَانَ أَوْ قَصِيرًا - دُوِّنَ وَحُفِظَ لِيُؤَدَّى مِنْ سَلَفٍ إِلَى خَلَفٍ، وَقَوْلُهُ: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) قَرَأَ يَزِيدُ - بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ، وَالْبَاقُونَ - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ - وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ يَزِيدَ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ مَعَ النَّبِيِّينَ بِالْحَقِّ; أَيْ: مَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ بِهِ مِمَّا هُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْوَاقِعِ، وَبَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِمَّا هُوَ صَالِحٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ; لِيَقَعَ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالْحَاكِمُ: هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخُصُومَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَالْمُرْشِدُ إِلَى صَحِيحِ الْعَقَائِدِ عَلَى مُقْتَضَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ النَّازِلِ بِالْحَقِّ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا يَنْطَبِقُ عَلَى نُصُوصِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا الْحَاكِمُونَ.

أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَالْحُكْمُ مُسْنَدٌ إِلَى الْكِتَابِ نَفْسِهِ، فَالْكِتَابُ ذَاتُهُ هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>