للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَفِيهِ نِدَاءٌ عَلَى الْحَاكِمِينَ بِالْكِتَابِ أَنْ يَلْزَمُوا حُكْمَهُ وَأَلَّا يَعْدِلُوا عَنْهُ إِلَى مَا تُسَوِّلُهُ الْأَنْفُسُ وَتُزَيِّنُهُ الْأَهْوَاءُ; فَإِنَّ الْكِتَابَ نَفْسَهُ هُوَ الْحَاكِمُ وَلَيْسَ الْحَاكِمُ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ، وَلَوْ سَاغَ لِلنَّاسِ أَنْ يُؤَوِّلُوا نَصًّا مِنْ نُصُوصِ الْكُتُبِ عَلَى حَسَبِ مَا تَنْزِعُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ بِدُونِ رُجُوعٍ إِلَى بَقِيَّةِ النُّصُوصِ، وَبِنَاءِ التَّأْوِيلِ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِهَا جُمْلَةً لَمَا كَانَ لِإِنْزَالِ الْكُتُبِ فَائِدَةٌ، وَلَمَا كَانَتِ الْكُتُبُ فِي الْحَقِيقَةِ حَاكِمَةً بَلْ تَتَحَكَّمُ الْأَهْوَاءُ، وَتُذْهِبُ النُّفُوسَ مَنَازِعُ شَتَّى، فَيَنْضَمُّ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمَنَافِعِ اخْتِلَافٌ آخَرُ جَدِيدٌ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي ضُرُوبِ التَّأْوِيلِ، وَبِنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ حُكْمًا عَلَى مَا نَزَعَ، فَتَعُودُ الْمَصْلَحَةُ مَفْسَدَةً، وَيَنْقَلِبُ الدَّوَاءُ عَلَيْهِ; وَلِهَذَا رَدَّ اللهُ تَعَالَى الْحُكْمَ إِلَى الْكِتَابِ نَفْسِهِ لَا إِلَى هَوَى الْحَاكِمِ بِهِ وَقَالَ: (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ تَابِعًا لِتِلْكَ الْوَحْدَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فَكَانَ كَأَنَّهُ لَازِمٌ لَهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا يُبَيِّنُهُ تَارِيخُ الْبَشَرِ وَمَا تَوَارَثُوهُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَكَمَا يَقْضِي فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يَقْضِي فِيمَا يَخْتَلِفُونَ بِهِ مِنْ بَعْدُ، وَنِسْبَةُ الْحُكْمِ إِلَى الْكِتَابِ هِيَ كَنِسْبَةِ النُّطْقِ وَالْهُدَى وَالتَّبْشِيرِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) (٤٥: ٢٩) وَقَوْلِهِ:

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧: ٩) وَكَنِسْبَةِ الْقَضَاءِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ

وَالسِّرُّ فِي التَّجَوُّزِ هُوَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللهِ; أَيْ: أَنْزَلَ اللهُ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ يُشْعِرُ كَذَلِكَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللهُ دُونَ آرَاءِ الْبَشَرِ وَظُنُونِهِمُ الَّتِي لَا تَرِدُ إِلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ.

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) وَقَدْ عَرَفْتَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ النَّاسَ بِحُكْمِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ وَضَرُورَةِ اشْتِبَاكِهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ عُرْضَةٌ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِّ; لِأَنَّ عُقُولَهُمْ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ جَامِعَتَهُمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى السَّعَادَةِ الْعُظْمَى فِي الْمَآبِ، فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي (فِيهِ) إِلَى الْحَقِّ فَلَا يُقَالُ وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْحَقِّ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَإِنَّ الْحَقَّ يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّاسُ قَبْلَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ الْأُولَى، وَلَا أَعْجَبَ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ النَّقْصَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الْحَقِّ إِلَّا بَعْدَ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، أَمَّا فَيِمَا قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْحَقِّ، فَكَأَنَّ رَذِيلَةَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ لَمْ تَقَعْ فِي الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ إِلَّا بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَوْلُ بِمِثْلِهِ مِنْ أَغْرَبِ مَا يُنْسَبُ إِلَى صَاحِبِ دِينٍ مَا، فَمَا بَالُكَ بِهِ إِذَا صَدَرَ عَنْ مُسْلِمٍ! !

وَالْحُقُّ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) يَعُودُ إِلَى الْكِتَابِ وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا عَسَاهُ يُقَالُ: إِذَا كَانَ النَّاسُ فِي جَامِعَتِهِمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّخَالُفِ بِمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ إِذَا تُرِكَتْ وَحْدَهَا،

<<  <  ج: ص:  >  >>