وَلَا غِنَى لَهُمْ عَنْ هِدَايَةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ تَأْتِيهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ؛ لِيَكُونُوا قُوَّادًا لِلْفِطْرَةِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَا بَالُ النَّاسِ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ وَلَا يَرْتَفِعُ مِنْ بَيْنِهِمْ ذَلِكَ الْخِلَافُ الَّذِي كَانَ يُخْشَى مِنْهُ إِفْسَادُ جَمَاعَتِهِمْ وَهَلَاكُ خَاصَّتِهِمْ؟ فَقَدْ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ عَلَى جَلْبِ
الْمَنَافِعِ وَالتَّوَسُّعِ فِي مَطَالِبِ الشَّهَوَاتِ، وَلَمْ تَكُنْ لَدَيْهِمْ فِي ذَلِكَ آلَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ فِي نَيْلِ مَطْلَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ سِوَى الْقُوَّةِ أَوِ الْحِيلَةِ، وَبَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ قَدِ انْضَمَّ إِلَى تِلْكَ الْآلَاتِ آلَةٌ أُخْرَى رُبَّمَا كَانَتْ أَقْوَى مِنْ سِوَاهَا وَهِيَ آلَةُ الْإِقْنَاعِ بِالْكِتَابِ، فَيَتَّخِذُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً مِنَ الْكِتَابِ أَوْ أَثَرًا مِمَّا جَاءَ بِهِ وَسِيلَةً إِلَى تَسْخِيرِ غَيْرِهِ لِمَا يُرِيدُ، وَذَلِكَ بِقَطْعِ الْكَلِمَةِ أَوِ الْأَثَرِ عَنْ بَقِيَّةِ مَا جَاءَ بِالْكِتَابِ وَالْآثَارِ الْأُخْرَى، وَلَيِّ اللِّسَانِ بِهِ وَتَأْوِيلِهِ بِغَيْرِ مَا قُصِدَ مِنْهُ، وَمَا هَمُّ الْمُؤَوِّلِ أَنْ يُعْمَلَ بِالْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كُلُّ مَا يَقْصِدُ هُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَطْلَبٍ لِشَهْوَتِهِ، أَوْ عَضُدٍ لِسَطْوَتِهِ، سَوَاءٌ عَلَيْهِ هُدِمَتْ أَحْكَامُ اللهِ أَوْ قَامَتْ، وَاعْوَجَّتِ السَّبِيلُ أَوِ اسْتَقَامَتْ، ثُمَّ يَأْتِي ضَالٌّ آخَرُ يُرِيدُ أَنْ يَنَالَ مِنْ هَذَا مَا نَالَ هَذَا مِنْ غَيْرِهِ، فَيُحَرِّفُ وَيُؤَوِّلُ حَتَّى يَجِدَ الْمَخْدُوعِينَ بِقَوْلِهِ وَيَتَّخِذَهُمْ عَوْنًا عَلَى ذَلِكَ الْخَادِعِ الْأَوَّلِ، فَيَقَعُ الْخِلَافُ وَالِاضْطِرَابُ، وَآلَةُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ هِيَ الْكِتَابُ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ الْغَابِرَةِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَبَيْنَ مَنْ سَبَقَهُمْ، وَبَيْنَ النَّصَارَى، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَمْ حُرُوبٌ وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَصَمَتْ ظُهُورَهُمْ، وَدَمَّرَتْ مَا كَانَ مِنْ قُوَاهُمْ، وَمَا كَانَ آلَةُ الْمُبْطِلِينَ فِي تِلْكَ الْمَشَاغِبِ إِلَّا دَعْوَى الدِّينِ، وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ، وَإِنَّهُمْ لَخَاطِئُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَمَا كَلِمَةُ الدِّينِ وَدَعْوَى تَأْيِيدِ الْكِتَابِ إِلَّا وَسَائِلُ لِإِرْضَاءِ الشَّهْوَةِ وَتَمْكِينِ الظَّالِمِ مِنَ السَّطْوَةِ.
ثُمَّ هُنَاكَ دَاعٍ آخَرُ لِلْخِلَافِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الْقَوْمِ فِي فَهْمِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ، فَكَلٌّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُعْتَقَدَ كَذَا، وَرُبَّمَا كَانَ حَسَنَ النِّيَّةِ فِيمَا يَقُولُ، وَيُعِدُّ الْمُخَالِفَ مُخْطِئًا فِيمَا يَزْعُمُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِكُلٍّ مِنْهُمُ التَّعَصُّبُ لِرَأْيهِ، فَيَذْهَبُ حُسْنُ النِّيَّةِ وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمَيْلَ إِلَى تَأْيِيدِ الْمَذْهَبِ، وَتَقْرِيرِ الْمَشْرَبِ، بِدُونِ رِعَايَةٍ لِلدَّلِيلِ وَلَا نَظَرَ إِلَى الْبُرْهَانِ، فَلَمْ يَسْتَفِدِ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنُزُولِ الْكُتُبِ إِلَّا حُدُوثَ سَبَبٍ جَدِيدٍ لِلْخِلَافِ لَمْ يَكُنْ، وَإِلَّا مَوْضُوعًا لِلشِّقَاقِ
كَانَ الْعَالَمُ فِي سَلَامَةٍ مِنْهُ، فَمَا فَائِدَةُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَكَيْفَ يَمُنُّ اللهُ عَلَى النَّاسِ بِأَمْرٍ لَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا شَقَاءً، وَلَمْ يُكْسِبْ بَصَائِرَهُمْ إِلَّا عَمَاءً؟ !
أَرَادَ اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ وَيُبَيِّنَ وَجْهَ الْخَطَأِ فِيهِ فَقَالَ: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) إِلَخْ، وَحَاصِلُ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ غَرَائِزَ الْبَشَرِ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي تَوْجِيهِ أَعْمَالِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute