للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ هِدَايَةٍ أُخْرَى تَعْلِيمِيَّةٍ تَتَّفِقُ مَعَ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ لِنَوْعِهِمْ، وَهِيَ قُوَّةُ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، تِلْكَ الْهِدَايَةُ التَّعْلِيمِيَّةُ هِيَ هِدَايَةُ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَالْكُتُبِ الَّتِي يُنَزِّلُهَا اللهُ عَلَيْهِمْ، مَعَ الْأَدِلَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى عِصْمَةِ الرُّسُلِ مِنَ الْكَذِبِ، وَعِصْمَةِ الْكُتُبِ مِنَ الْخَطَأِ، فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الرِّسَالَةِ وَالْعِصْمَةِ أَوَّلًا، وَسُطُوعُ الْأَدِلَّةِ يَحْمِلُ الْمُسْتَعِدِّينَ مِنْهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ حَتْمًا، فَإِذَا عَقَلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَعْدِلُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَنْهُ، ذَلِكَ كَمَا وَهَبَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لِيَهْتَدُوا بِهِمَا إِلَى مَا يُوَفِّرُ لَهُمُ الْفَوَائِدَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْغَوَائِلَ، وَيَتَّقُوا بِهِمَا الْوُقُوعَ فِي الْمَكَارِهِ، وَكَمَا وَهَبَ لَهُمُ الْعَقْلَ لِيَهْتَدُوا بِهِ فِيمَا يَتْبَعُ الْأَعْمَالَ مِنَ الْعَوَاقِبِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْظُرُوا فِي فَهْمِ الْأَحْكَامِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى جُمْلَتِهَا وَمَجْمُوعِ مَا تَفَرَّقَ مِنْهَا، لَا يُقْصِرُونَ نَظَرَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَغُضُّونَ بَصَرَهُمْ عَنْ بَعْضٍ آخَرَ، ثُمَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقِفُوا عَلَى حِكْمَةِ اللهِ فِي تَشْرِيعِ شَرِيعَتِهِ، وَوَضْعِ مَا قَرَّرَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَحِيدُونَ عَنْ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا كُتُبُهُ، بَلْ صَرَّحَتْ بِهَا نُصُوصُهَا لَا يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، حَتَّى يَتِمَّ لَهُمُ الِاعْتِدَاءُ بِهَا، فَإِنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ حِكْمَةِ الْعَمَلِ غَفْلَةٌ عَنْ فَائِدَتِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ فَائِدَتِهِ انْصِرَافٌ عَنْ رُوحِهِ الَّتِي لَا يَقُومُ إِلَّا بِهَا، غَيْرَ أَنَّ عَامَّةَ الْخَاطِئِينَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَصِلُوا إِلَى كُلِّ ذَلِكَ بِأَفْهَامِهِمْ عَلَى قِصَرِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْخَاصَّةِ الَّذِينَ قَدَّمَهُمُ الرُّسُلُ لِلنِّيَابَةِ عَنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُوتُوهُ، وَأَعْطَاهُمُ اللهُ الْكِتَابَ عَلَى أَنْ يُقَرِّرُوا مَا فِيهِ، وَيُرَاقِبُوا انْطِبَاقَ سَيْرِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَالْبَيِّنَاتُ هِيَ الدَّلَائِلُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِصْمَةِ الْكِتَابِ مِنْ وَصْمَةِ إِثَارَةِ الْخِلَافِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَّا لِإِسْعَادِ النَّاسِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمْ، لَا لِإِشْقَائِهِمْ وَتَمْزِيقِ شَمْلِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِيهِ رَاجِعَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا جَاءَ

بِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَهْمُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ مُرْتَبِطًا بِفَهْمِ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، وَعَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِنَّمَا كَانَتْ إِلَى جُمْلَتِهِ، لَا إِلَى الْأَنْقَاضِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وَتَعَدِّيًا لِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَقَامَهَا حَوَاجِزَ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْخِلَافُ دَاعِيَةُ الْبَغْيِ. إِنَّ الْحَبْرَ أَوِ الْكَاهِنَ أَوِ الْعَالِمَ أَوِ الرَّئِيسَ أَوْ أَيَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تُسَمِّيهِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي الدِّينِ الْقَائِمِينَ عَلَيْهِ، الَّذِينَ يَنُوبُونَ عَنِ الرُّسُلِ فِي حِفْظِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى صِيَانَتِهِ، الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَرَى الرَّأْيَ وَيَفْهَمُ الْفَهْمَ وَيَأْخُذُ الْحُكْمَ مَنْ نَصٍّ يَقِفُ عِنْدَهُ ذِهْنُهُ، أَوْ أَثَرٍ يَصِلُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ وَصَلَ إِلَيْهِ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَآخَرُ يَرَى غَيْرَ مَا يَرَى، وَيَزْعُمُ وُصُولَ أَثَرٍ غَيْرِ الَّذِي وَصَلَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَكَانَ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّمْحِيصِ، وَتَخْلِيصِ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ هَوًى سِوَى الْمَيْلِ إِلَى تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَتَطْبِيقِ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمَا ذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>