هَذَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُنَاكَ مَا رَمَى إِلَيْهِ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُمَا سَابِقًا، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَمَا يَعْمَلُونَ وَمَا يَتْرُكُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفَاءَ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْوَحْدَةَ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا تَكُونُ إِلَّا الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا بُدَّ لِبَيَانِ مَا رَمَى إِلَيْهِ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بَيَانٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْجِنَانُ.
مَا جَاءَنَا مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ وَمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ آثَارِهِمْ وَمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ حَالِ بَعْضِهِمُ الْيَوْمَ يَشْهَدُ شَهَادَةً لَا يَرْتَابُ فِيهَا مَنْ أُدِّيَتْ إِلَيْهُ أَنَّ الْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ سَارَتْ بِالْإِنْسَانِ فِي جَمَاعَتِهِ كَمَا سَارَتْ بِهِ فِي أَفْرَادِهِ، يَخْلُقُ اللهُ الْفَرْدَ مِنَ الْبَشَرِ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ فَاقِدَ الْعِلْمِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٦: ٧٨) ثُمَّ أَبَوَاهُ أَوْ مَنْ يَكْفُلُهُ سِوَاهُمَا يَقُومُ عَلَيْهِ يُقَوِّي بِنْيَتَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا عَسَاهُ يَهْدِمُهَا، وَيُعَلِّمُهُ كَيْفَ يَسْمَعُ وَكَيْفَ يَنْظُرُ وَكَيْفَ يَتَّقِي بِبَصَرِهِ وَسَمْعِهِ مَا تُخْشَى عَاقِبَةُ وَقْعِهِ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ حَدًّا مَعْلُومًا يَكُونُ فِيهِ الْحِسُّ قَدْ أَعَدَّهُ لِاسْتِعْمَالِ قُوَّةٍ أُخْرَى كَانَتْ لَا تَزَالُ قَاصِرَةً فِيهِ وَهِيَ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَكِّرَ فِيمَا مَضَى وَيَنْظُرَ فِيمَا حَضَرَ; لِيَعْرِفَ مِنْهَا كَيْفَ يَسْلُكُ فِي عَمَلِهِ لِمَا يَسْتَقْبِلُ، فَكَمَالُ اسْتِعْدَادِ الْعَقْلِ لِلنَّظَرِ فِي شُئُونِ الشَّخْصِ هُوَ مُنْتَهَى نُمُوِّ الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ، كَمَا أَنَّ وُصُولَ الْبِنْيَةِ إِلَى الْحَدِّ الْمَعْرُوفِ فِي السِّنِّ الْمَعْلُومَةِ هُوَ مُنْتَهَى نُمُوِّ الْبَدَنِ، تِلْكَ السِّنُّ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِسِنِّ الرُّشْدِ.
لَمْ يَكُنْ مِنْ مُتَنَاوَلِ قُوَّةِ الصَّبِيِّ فِي زَمَنِ الصِّبَا الْإِحَاطَةُ بِكُنْهِ الْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا وَضَعَ اللهُ فِيهَا مِنَ الرَّوَابِطِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَعَانِي الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا بِنْيَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَوْقِ مَدَارِكِهِ أَنْ تَخْتَرِقَ هَذَا الْكَوْنَ الْمَحْسُوسَ لِتَصِلَ إِلَى مَعْرِفَةِ
مُكَوِّنِهِ، وَيُشْرِقُ عَلَيْهَا نُورُ وُجُودِهِ الْبَاهِرُ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلُّ هَمِّ الصَّبِيِّ مُنْصَرِفًا إِلَى تَغْذِيَةِ جِسْمِهِ وَرِيَاضَةِ قُوَاهُ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِذَا ذُكِرَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ لَمْ يَتَمَثَّلْهَا ذِهْنُهُ إِلَّا فِي صُوَرٍ مِنَ الْخَيَالِ هِيَ إِلَى الْبَاطِلِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى الْحَقِّ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ طِفْلًا ثُمَّ صَارَ صَبِيًّا ثُمَّ بَلَغَ سِنًّا عَرَفَ نَفْسَهُ فِيهَا رَجُلًا عَاقِلًا، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْإِطَالَةِ فِيهِ.
عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ قَادَتِ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ جَمَاعَةَ الْبَشَرِ; لِأَنَّ الْحِكْمَةَ قَدْ قَضَتْ بِأَنْ يَحْيَا الْإِنْسَانُ إِلَى أَجَلِهِ الْمَحْدُودِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ نَوْعِهِ كَمَا قَدَّمْنَا لَا مَنَاصَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، هَذِهِ الْجَمَاعَةُ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى أُمَّةً كَمَا عَرَفْتَ، وَيُمْكِنُكَ أَنْ تُسَمِّيَهَا بِنْيَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَتُسَمِّيَ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ تِلْكَ الْبِنْيَةِ، فَكَمَا يَنْشَأُ الْفَرْدُ قَاصِرًا فِي جَمِيعِ قُوَاهُ ضَعِيفًا فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، كَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute