للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَشَأَتِ الْجَمْعِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ السَّذَاجَةِ لَا تَبْلُغُ بِهَا إِلَى تَنَاوُلِ الشُّئُونِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَعَانِي الْعَالِيَةِ وَالْمَعَارِفِ السَّامِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ الَّذِي يُرَبِّي الْفَرْدَ وَيَسُوسُ قُوَاهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رُشْدَهُ هُوَ الْأَبَوَانِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَالَّذِي يَكْفُلُ الْجَمْعِيَّةَ وَيُرَبِّي قُوَاهَا وَيَشُدُّ بِنَاهَا، إِنَّمَا هُوَ الْكَوْنُ وَمَا يَمَسُّهَا مِنْ حَوَادِثِهِ، وَالْحَاجَاتُ وَوَقْعُهَا، وَالضَّرُورَاتُ وَلَذْعُهَا، وَكَمَا يُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ أَبَوَاهُ يُؤَدِّبُ الْجَمَاعَةَ شِدَّةُ وَقْعِ الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الطَّوْرِ لَا هَمَّ لَهَا إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى بِنْيَتِهَا الْجِسْمِيَّةِ، وَحَاجَاتِهَا الْبَدَنِيَّةِ، وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنَ الزَّمَنِ مَا تَتَفَرَّغُ فِيهِ لِأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الطِّفْلِ فِي صِبَاهُ.

وَالْآثَارُ الَّتِي عَثَرَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُونَ فِي مَبَادِئِ ظُهُورِ الصِّنَاعَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ وَارْتِقَائِهَا مِنْ أَدْنَى الْأَعْمَالِ إِلَى مَا يَظُنُّهُ النَّاظِرُ أَعْلَاهَا الْيَوْمَ، تَشْهَدُ شَهَادَةً كَافِيَةً بِأَنَّ الْبَشَرَ كَانُوا فِي بَدْءِ أَمْرِهِمْ مِنْ قُصُورِ الْقُوَى عَلَى حَالَةِ تُشْبِهُ حَالَةَ الصِّبْيَانِ فِي الْأَفْرَادِ، فَقَدْ كَانُوا فِي بَعْضِ أَطْوَارِهِمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى اصْطِنَاعِ الْمَعَادِنِ الْقَابِلَةِ لِلطَّرْقِ كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، وَأَنَّ آلَاتِهِمْ لِلدِّفَاعِ وَنَحْوِهِ كَانَتْ مِنَ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا إِلَى اسْتِعْمَالِ النُّحَاسِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ

كَانَ رُقِيُّ مَعَارِفِهِمْ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الصَّنْعَةِ، وَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَنْظُرَ كَيْفِ ابْتَدَءُوا وَضْعَ حُرُوفِ الْكِتَابَةِ مِنَ الْخَطِّ الْمِسْمَارِيِّ ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا يَرْتَقُونَ فِيهِ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى مَا تَعْرِفُ الْيَوْمَ، كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي الْجَمَاعَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا سُنَّتُهُ فِي الْفَرْدِ مِنْهَا مِنَ التَّدَرُّجِ بِهِ مِنْ ضَعْفٍ إِلَى قُوَّةٍ وَمِنْ قُصُورٍ إِلَى كَمَالٍ.

كَانُوا فِي طَوْرِ الْقُصُورِ مُنْغَمِسِينَ فِي الْحِسِّ وَالْمَحْسُوسِ، فَإِذَا تَخَلَّصُوا مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ تَخَلَّصُوا إِلَى وَهْمٍ يُثِيرُهُ الْحِسُّ، وَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ لَهُ يَظُنُّ شَيْئًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذَا عَجِبُوا كَيْفَ يَمُوتُ الْمَيِّتُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى فَهْمِ مَعْنَى الْمَوْتِ ظَنُّوا أَنَّهُ يَغِيبُ عَنْهُمْ غَيْبَةً وَلَكِنْ لَا يَزَالُ يَتَعَهَّدُهُمْ بِمَا يُؤْذِيهِمْ، كَأَنَّ الْمَوْتَ يُحْدِثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةً، فَظَنُّوا أَنَّ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادِيَاتِ الضَّارَّاتِ، الْمُعَيَّنَاتِ النَّافِعَاتِ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يُعِدُّونَ لَهَا مَا يُرْضِيهَا، وَكَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَهَا، وَإِذَا سَمِعُوا رَعْدًا أَوْ رَأَوْا بَرْقًا أَوْ أَمْطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ أَوْ ذَعَرَتْهُمُ الْأَعَاصِيرُ، تَخَيَّلُوا أَشْبَاحًا مِثْلَهُمْ تُرْسِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَذْهَبُ بِهِمُ الْخَيَالُ فِيهَا إِلَى مَا شَاءَ مِنْ صُوَرٍ وَتَمَاثِيلَ. وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالنُّجُومِ، إِذَا اسْتَعْظَمُوا مِنْهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>