للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْحَجِّ: (أُذِنَ لِلَّذِينِ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) (٢٢: ٣٩) الْآيَاتِ. ثُمَّ كُتِبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ وَاجِبًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى الصَّحَابَةِ فَقَطْ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ. وَذَهَبَ السَّلَفُ إِلَى أَنَّ الْقِتَالَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (٤: ٩٥) وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْقَاعِدِينَ هُنَا هُمْ أُولُو الضَّرَرِ الْعَاجِزُونَ عَنِ الْقِتَالِ لِمَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الْقَاعِدُونَ كَرَاهَةً فِي الْقِتَالِ فَحُكْمُهُمْ فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) وَقِيلَ: إِنَّ الْقِتَالَ يَجِبُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الْعَدُوُّ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ فَاتِحًا فَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) فَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنَ

الْمُشْكِلَاتِ إِذْ كَيْفَ يَكْرَهُ الْمُؤْمِنُونَ مَا يُكَلِّفُهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ وَفِيهِ سَعَادَتُهُمْ؟ ! وَحَمَلَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْكُرْهِ الطَّبِيعِيِّ وَالْمَشَقَّةِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الرِّضَى بِهِ وَالرَّغْبَةَ فِي الْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَجَعَلَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ لِحِفْظِ دِينِهِ كَمَا قَالَ فِي آيَاتِ الْإِذْنِ بِهِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ) (٢٢: ٤٠) إِلَخْ.

وَقَوْلُهُ: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) مَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَكْرُوهَةِ طَبْعًا مَا تَأْتُونَهُ وَأَنْتُمْ تَرْجُونَ نَفْعَهُ وَخَيْرَهُ كَشُرْبِ الدَّوَاءِ الْبَشِعِ الْمُرِّ، وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَلَذَّةِ طَبْعًا مَا يَتَوَقَّعُ فَاعِلُهَا الضُّرَّ وَالْأَذَى فِي نَفْسِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ مُنَازَعَةِ النَّاسِ لَهُ فِيهِ.

هَذَا تَقْرِيرُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَظْهَرُ عَلَى هَذَا مَعْنًى وَجِيهٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَتَوَقَّعُونَهُ لَا مِمَّا هَدَاهُمُ الْكِتَابُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (عَسَى) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُفِيدُ أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ، لَا أَنَّهُ مَرْجُوٌّ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ وَمُتَوَقَّعٌ، وَأَنَّ الْكُرْهَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ مَا حَمَلُوهُ عَلَيْهِ، ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ وَالْعَرَبُ فِي قِتَالٍ مُسْتَحِرٍّ، وَنِزَاعٍ مُسْتَمِرٍّ، وَكَانَ الْغَزْوُ لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْكَسْبِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ قَدْ أَلِفُوا الْقِتَالَ وَاعْتَادُوهُ وَمُرِّنُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهًا بِالطَّبْعِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ فِئَةً قَلِيلَةً حَمَلَتْ هَذَا الدِّينَ وَاهْتَدَتْ بِهِ، وَيَخْشَوْنَ أَنْ يُقَاوِمُوا الْمُشْرِكِينَ بِالْقُوَّةِ فَيَهْلِكُوا، وَيَضِيعُ الْحَقُّ الَّذِي هُدُوا إِلَيْهِ وَكُلِّفُوا إِقَامَتَهُ وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ كُرْهَهُمْ لِلْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَبِيدُوا، وَلَا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي حَمَلُوهُ أَنْ يَضِيعَ، وَإِنَّمَا هُوَ حُبُّ السَّلَامِ وَالرَّحْمَةِ بِالنَّاسِ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْقُرْآنُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَثَبَّتَهَا الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاخْتِيَارُ مُصَابَرَةِ الْكُفَّارِ وَمُجَادَلَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ دُونَ مُجَالَدَتِهِمْ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، رَجَاءَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَيَتْرُكُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>