للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) مَا لَا يَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى

الَّذِي قَبْلَهُ وَيُفِيدُ قَوْلُهُ: (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أَنَّ قِيَاسَكُمْ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَتَوَقُّعَكُمْ أَنْ يُزَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَا زُيِّنَ لَكُمْ، هُوَ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ، فَإِنَّ الِاسْتِعْدَادَ فِي النَّاسِ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا عَظِيمًا، فَمِنْهُمْ مَنْ سَاءَتْ خَلِيقَتُهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِرُوحِ الْحَقِّ مَنْفَذٌ إِلَى عَقْلِهِ، وَلَا لِحُبِّ الْخَيْرِ طَرِيقٌ إِلَى قَلْبِهِ، فَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الدَّعْوَةُ، وَلَا تُرْجَى لَهُ الْهِدَايَةُ وَمِثْلُ هَذَا الْفَرِيقِ فِي الْأُمَّةِ كَمَثَلِ الدَّمِ الْفَاسِدِ فِي الْجِسْمِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ، وَلَمْ يَأْمُرِ اللهُ بِقِتَالِهِمْ إِلَّا رَحْمَةً بِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ أَنْ تَفْسُدَ بِهِمْ، فَلَا يُقَاسُونَ عَلَى مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ وَحَسُنَتْ سَرِيرَتُهُمْ حَتَّى كَانَ وُقُوعُهُمْ فِي الْبَاطِلِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِالْحَقِّ، وَإِصَابَتِهِمْ بَعْضَ الشَّرِّ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَيْرِ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَا تَعْلَمُونَ كُنْهَ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ وَلَا مَا يَكُونُ مِنْ أَثَرِهِ فِي مُسْتَقْبَلِهِمْ، وَإِنَّمَا اللهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ فَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ.

وَأَمَّا مَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِمَّا أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَهُوَ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَنْصُرَ الْحَقَّ وَحِزْبَهُ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَحْزَابِهِ مَا اسْتَمْسَكَ حِزْبُ اللهِ بِحَقِّهِمْ فَأَقَامُوهُ وَدَعَوْا إِلَيْهِ وَدَافَعُوا عَنْهُ، وَأَنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْمُدَافَعَةِ ضَعْفٌ فِي الْحَقِّ يُغْرِي بِهِ أَعْدَاءَهُ وَيُطْمِعُهُمْ بِالتَّنْكِيلِ بِحِزْبِهِ، حَتَّى يَتَأَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَيُوقِعُوا بِهِمْ، وَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ اللهَ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ وَيَنْصُرَ أَهْلَهُ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَيَخْذُلَ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢: ٢٤٩) وَقَدْ عَلِمَ اللهُ كُلَّ هَذَا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا خَبَّأَ لَكُمْ فِي غَيْبِهِ، وَسَتَجِدُونَهُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُرْشِدُكُمْ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ.

وَمِنْ عَجِيبِ مَا تَرَى الْعَيْنَانِ نَقْلُ الْمُفَسِّرِينَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا) جَمِيعُ التَّكَالِيفِ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا) جَمِيعُ مَا نُهُوا عَنْهُ. وَلَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَكْرَهُ طَبْعُهُ وَتَسْتَثْقِلُ نَفْسُهُ جَمِيعَ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَتُحِبُّ جَمِيعَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ يُذْهِلُ الْمَرْءَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِبُّ وَتَكْرَهُ، وَعَمَّا يَرَاهُ وَيَعْرِفُهُ فِي النَّاسِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ; فَلْيَتَأَمَّلِ الْقَارِئُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي يُعْرَفُ بُطْلَانُهُ مِنْ نَفْسِهِ

وَبَيْنَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، يَعْرِفْ قِيمَةَ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا خُلِقَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالتَّقْلِيدِ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ.

بَعْدَ مَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقِتَالَ كُتِبَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا مَفَرَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ الْمُؤْمِنُونَ خَشْيَةَ أَنْ يَضِيعَ الْحَقُّ بِهَلَاكِ أَهْلِهِ، أَوْ لِمَا أَوْدَعَ الْقُرْآنُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّجَاءِ بِجَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ بِجَاذِبِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ - وَهُوَ الْأَرْجَحُ - بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَسْأَلَةً لَا بُدَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ بَيَانِهَا لِلْحَاجَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا، عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَرَجَبٍ،

<<  <  ج: ص:  >  >>