وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّ النَّاسَ عَلَى غَيْرِ الْقَبِيحِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْقِتَالِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ حَسَنٌ; لِأَنَّهُ تَقْلِيلٌ لِلشَّرِّ; لِذَلِكَ كَانَ لِمَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ وَقْعٌ سَيِّئٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ جَمِيعًا، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ عِنْدَ أَخْذِ الْعِيرِ وَقَتْلِ مَنْ قَتَلُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ غُرَّةُ رَجَبٍ. قِيلَ: إِنَّ السَّائِلِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِرْشَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) أَيْ: عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ، وَقُرِئَ ((عَنْ قِتَالٍ فِيهِ)) بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَقَدَّمَ ذِكْرَهُ لِلْعِنَايَةِ بِهِ، وَنَكَّرَ الْقِتَالَ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِتَنْوِيعِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَصِحُّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ قِتَالٌ مَا؟ (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أَيْ: إِنَّ أَيَّ قِتَالٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ مُسْتَنْكَرٌ وُقُوعُهُ فِيهِ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ ذَنْبٌ كَبِيرٌ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِحُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَلَفَ لِي عَطَاءٌ بِاللهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ الْغَزْوُ فِي الْحَرَمِ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ، وَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا; لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْخَاصِّ بِالْعَامِّ وَفِيهِ خِلَافٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ - وَعِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ: وَالْأَولَى مَنْعُ دَلَالَةِ الْآيَةِ - عَلَى حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي كُلِّ الشَّهْرِ الْحَرَامِ مُطْلَقًا; لِأَنَّ لَفْظَةَ (قِتَالٍ) فِيهَا نَكِرَةٌ فِي حَيِّزٍ مُثْبَتٍ فَلَا تَعُمُّ،
وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى الْمَنْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ لَفْظِ الْقِتَالِ فِيهَا عَامًّا، وَرُبَّمَا كَانَتْ دَلَالَةُ النَّكِرَةِ فِيهَا أَدَلَّ عَلَى إِطْلَاقِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ قِتَالٍ فِي جِنْسِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَعْنَى تَنْكِيرِهَا وَكَوْنِهِ لِلتَّنْوِيعِ، وَلَهُمْ فِي الْآيَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ إِثْبَاتَ كَوْنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرًا تَمْهِيدٌ لِلْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ وَمَا عَسَاهُ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ لَا يُنْكِرُهَا عَقْلٌ، وَهِيَ وُجُوبُ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِتَالَ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ وَجُرْمٌ عَظِيمٌ، وَإِنَّمَا يُرْتَكَبُ لِإِزَالَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَصَدٌّ عَلَى سَبِيلِ اللهِ) أَيْ: وَصَدُّ النَّاسِ وَمَنْعُهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنِ اضْطِهَادِ الْمُسْلِمِينَ وَفِتْنَتِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ; إِذْ يَقْتُلُونَ مَنْ يُسْلِمُ أَوْ يُؤْذُونَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَيَمْنَعُونَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَكُفْرٌ بِهِ) أَيْ: بِاللهِ تَعَالَى (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَيْ: وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; وَهُوَ مَنْعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحَجِّ وَالِاعْتِمَارِ (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) وَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُهَاجِرُونَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي آيَاتِ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) (٢٢: ٤٠) كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ بِهَا وَقَدِ اجْتَمَعَتْ! ! !
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute