ثُمَّ صَرَّحَ بِالْعِلَّةِ الْعَامَّةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِتَالِ، وَهِيَ فِتْنَةُ النَّاسِ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَبِمَا عُلِمَ مِنَ الْإِيذَاءِ وَالتَّعْذِيبِ، كَمَا فَعَلُوا بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعَشِيرَتِهِ، وَبِلَالٍ وُصَهَيْبٍ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَغَيْرِهِمْ كَانَ عَمَّارٌ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ؛ يُكْوَى بِهَا لِيَرْجِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِهِ فَيَرَى أَثَرَ النَّارِ بِهِ كَالْبَرَصِ. وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: إِنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَأَبَاهُ وَأَخَاهُ عَبْدَ اللهِ وَسُمَيَّةَ أُمَّهُ كَانُوا يُعَذَّبُونَ فِي اللهِ، فَمَرَّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ((صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ)) وَفِي رِوَايَةٍ ((صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِآلِ يَاسِرٍ، وَقَدْ فَعَلْتُ)) .
مَاتَ يَاسِرٌ فِي الْعَذَابِ وَأُعْطِيَتْ سُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارٍ لِأَبِي جَهْلٍ يُعَذِّبُهَا - وَكَانَتْ مَولَاةً لِعَمِّهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ بِتَعْذِيبِهَا - فَعَذَّبَهَا عَذَابًا شَدِيدًا رَجَاءَ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا فَلَمْ تُجِبْهُ لِمَا يَسْأَلُ، ثُمَّ طَعَنَهَا فِي فَرْجِهَا بِحَرْبَةٍ فَمَاتَتْ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً، وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ لَهَا مَعَ ذَلِكَ: مَا آمَنْتِ بِمُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّكِ عَشِقْتِهِ لِجَمَالِهِ، يُؤْذِيهَا بِالْقَوْلِ كَمَا يُؤْذِيهَا بِالْفِعْلِ، وَكَانَ يُلْبِسُ عَمَّارًا دِرْعًا مِنَ الْحَدِيدِ فِي الْيَوْمِ الصَّائِفِ يُعَذِّبُهُ بِحَرِّهِ.
وَكَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ يُعَذِّبُ بِلَالًا يَفْتِنُهُ، فَكَانَ يُجِيعُهُ وَيُعَطِّشُهُ لَيْلَةً وَيَوْمًا، ثُمَّ يَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي الرَّمْضَاءِ; أَيْ: يَضَعُهُ عَلَى الرَّمْلِ الْمُحْمَى بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ الَّذِي يُنْضِجُ اللَّحْمَ، وَيَضَعُ عَلَى ظَهْرِهِ صَخْرَةً عَظِيمَةً وَيَقُولُ لَهُ: لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْبُدَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، فَيَأْبَى ذَلِكَ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانُوا يُعْطُونَهُ لِلْوِلْدَانِ فَيَرْبُطُونَهُ بِحَبْلٍ وَيَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: ((أَحَدٌ، أَحَدٌ)) .
وَحَكَى خَبَّابٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمًا وَقَدْ أُوقِدَتْ لِي نَارٌ وَضَعُوهَا عَلَى ظَهْرِي فَمَا أَطْفَأَهَا إِلَّا وَدَكُ (دُهْنُ) ظَهْرِي. فَهَذَا نَمُوذَجٌ مِنْ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ لِضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا امْتَنَعَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَزَّ عَلَيْهِمْ إِبْسَالُهُ فَمَنَعُوهُ حَمِيَّةً وَأَنَفَةً لِلْقَرَابَةِ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنَعَةِ قَوْمِهِ وَعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إِيذَائِهِمْ، فَقَدْ وَضَعُوا سَلَا الْجَزُورِ (كَرِشَ الْبَعِيرِ الْمَمْلُوءَةَ فَرْثًا) عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَخَافَ أَصْحَابُهُ تَنْحِيَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ حَتَّى نَحَّتْهُ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَتَعَرَّضُوا لَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ كَفَاهُ اللهُ شَرَّهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (١٥: ٩٥) وَسَيَجِيءُ ذِكْرُهُمْ وَبَيَانُ إِيذَائِهِمْ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
هَذَا مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَامِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَالِ ضَعْفِهِمْ، وَلَمَّا هَاجَرُوا وَكَثُرُوا صَارُوا يَقْصِدُونَهُمْ بِالْقِتَالِ فِي مَهْجَرِهِمْ لِأَجْلِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute