للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أُخْرَى; لِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْضِعًا لِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فَتَرَكَ لَهَا الْخَمْرَ بَعْضُهُمْ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِهَا آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ يَتَيَسَّرُ لَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا مَعَ اجْتِنَابِ ضَرَرِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِلْقَطْعِ

بِتَحْرِيمِهَا، وَلَوْ فُوجِئُوا بِالتَّحْرِيمِ مَعَ وَلُوعِ الْكَثِيرِينَ بِهَا وَاعْتِقَادِهِمْ مَنْفَعَتَهَا لَخَشِيَ أَنْ يُخَالِفُوا أَوْ يَسْتَثْقِلُوا التَّكْلِيفَ، فَكَانَ مِنْ حُكْمِ اللهِ أَنْ رَبَّاهُمْ عَلَى الِاقْتِنَاعِ بِأَسْرَارِ التَّشْرِيعِ وَفَوَائِدِهِ لِيَأْخُذَهُ بِقُوَّةٍ وَعَقْلٍ.

لَفْظُ الْخَمْرِ مَنْقُولٌ مِنْ مَصْدَرِ خَمَّرَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى سَتَرَهُ وَغَطَّاهُ، يُقَالُ: خَمَّرَتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ وَخَمَّرْتُ الْجَارِيَةَ أَلْبَسْتُهَا الْخِمَارَ، وَهُوَ النَّصِيفُ الَّذِي تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا، وَتَخَمَّرَتْ هِيَ وَاخْتَمَرَتْ. وَالْوَجْهُ فِي النَّقْلِ أَنَّ هَذَا الشَّرَابَ يَسْتُرُ الْعَقْلَ وَيُغَطِّيهِ، أَوْ هُوَ مِنْ خَامَرَهُ بِمَعْنَى خَالَطَهُ، يُقَالُ: خَامَرَهُ الدَّاءُ; أَيْ: خَالَطَهُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ عُمَرُ فِي خُطْبَةٍ لَهُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ بِمَعْنَى التَّغَيُّرِ، يُقَالُ: خَمِرَ الشَّيْءُ - كَعَلِمَ - إِذَا تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَالْعَصِيرُ يَتَغَيَّرُ فَيَكُونُ خَمْرًا، أَوْ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، مِنْ خَمَّرَ الْعَجِينَ وَنَحْوَهُ فَاخْتَمَرَ; أَيْ: بَلَغَ وَقْتَ إِدْرَاكِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّهُ يُقَالُ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا; لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى اخْتَمَرَتْ، وَاخْتِمَارُهَا تُغَيُّرُ رَائِحَتِهَا، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَمْرِ لُغَةً عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَشْهَرُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ كَالْجَوْهَرِيِّ وَأَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيِّ وَالْمَجْدِ صَاحِبِ الْقَامُوسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ حَقِيقِيٌّ وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمِّي نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ خَمْرًا لَا تُطْلِقُ اللَّفْظَ عَلَى مُسْكِرٍ سِوَاهُ، وَهُوَ مَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا اعْتُصِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، زَادَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ سَكَنَ، وَقِيلَ إِذَا اشْتَدَّ فَقَطْ. وَيَرُدُّهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ - وَهُمْ صَمِيمُ الْعَرَبِ - فَهِمُوا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الْعِنَبِ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ; بَلْ قَالَ أَهْلُ الْأَثَرِ: إِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا نَبِيذُ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، فَهُوَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ نَصُّ الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ: ((نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهُوَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ)) وَكَأَنَّ هَذَا كُلُّ مَا يُعْرَفُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ)) وَرُوِيَ بِزِيَادَةِ: ((وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)) وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ يَجْلِدُونَ كُلَّ مَنْ

سَكِرَ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِحَدِّ الْخَمْرِ أَوْ عُقُوبَتِهِ، يَقُولُ الْمُخَصِّصُونَ: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، وَنَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ عَلَيْهِمْ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي نَهَى الله عَنْهَا فِي كِتَابِهِ هِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ، فَلَا فَرْقَ فِي حُكْمِهَا بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>