للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَرَسُولِهِ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ حُرَّةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمُ الْمُشْرِكَةُ بِجَمَالِهَا وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْلُ الْأَمَةِ أَمَوَةُ بِالتَّحْرِيكِ، يُقَالُ أَمَتِ الْجَارِيَةُ: صَارَتْ أَمَةً، وَأَمَّيْتُهَا - بِالتَّشْدِيدِ - جَعَلْتُهَا أَمَةً، وَتَأَمَّتْ صَارَتْ أَمَةً (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: لَا تُزَوِّجُوهُمُ الْمُؤْمِنَاتِ (حَتَّى يُؤْمِنُوا) فَيَصِيرُوا أَكْفَاءَ لَهُنَّ (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) أَيْ: وَلَمَمْلُوكٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ حُرٍّ (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) الْمُشْرِكُ بِنَسَبِهِ أَوْ قُوَّتِهِ أَوْ مَالِهِ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَهُمُ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ غَايَةُ الْخِلَافِ وَالتَّبَايُنِ فِي الِاعْتِقَادِ لَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَتَّصِلُوا بِهِمْ بِرَابِطَةِ

الصِّهْرِ لَا بِتَزْوِيجِهِمْ وَلَا بِالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْكِتَابِيَّاتُ فَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُنَّ حِلٌّ لَنَا، وَسَكَتَ هُنَاكَ عَنْ تَزْوِيجِ الْكِتَابِيِّ بِالْمُسْلِمَةِ وَقَالُوا - وَرَضِيَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ -: إِنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ وَأَيَّدَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ فِي الْجَمِيعِ فَجَاءَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ تَغْلِيظًا لِأَمْرِ الشِّرْكِ وَيُحِلُّ الْكِتَابِيَّاتِ تَأَلُّفَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ; لِيَرَوْا حُسْنَ مُعَامَلَتِنَا وَسُهُولَةَ شَرِيعَتِنَا، وَهَذَا إِنَّمَا يَظْهَرُ بِالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ; لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ صَاحِبُ الْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِذَا هُوَ أَحْسَنَ مُعَامَلَتَهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَسِعَةِ الصَّدْرِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِينَ، وَأَمَّا تَزْوِيجُهُمْ بِالْمُؤْمِنَاتِ فَلَا تَظْهَرُ مِنْهُ مِثْلُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَسِيرَةُ الرَّجُلِ وَلَا سِيَّمَا فِي مِلَلٍ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِيهَا مِنَ الْحُقُوقِ مَا أَعْطَاهُنَّ الْإِسْلَامُ - وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَسَائِرُ الْمِلَلِ كَذَلِكَ - فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ النَّصَّيْنِ فِي السُّورَتَيْنِ، وَإِذَا قَامَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَدِلَّةٌ مِنَ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوْ مِنَ التَّعْلِيلِ الْآتِي لِمَنْعِ مُنَاكَحَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى تَحْرِيمِ تَزْوِيجِ الْكِتَابِيِّ بِالْمُسْلِمَةِ فَلَهَا حُكْمُهَا لَا عَمَلًا بِالْأَصْلِ أَوْ نَصِّ الْكِتَابِ، بَلْ عَمَلًا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِتَنْكِحُوا وَتُنْكِحُوا - بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا - يُشْعِرُ بِأَنَّ الرِّجَالَ هُمُ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهُنَّ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا بِالِاسْتِقْلَالِ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْوَلِيِّ; إِذِ الزَّوَاجُ تَجْدِيدُ قَرَابَةٍ وَمَوَدَّةٍ رَحِمِيَّةٍ بَيْنَ أُسْرَتَيْنِ، وَعَشِيرَتَيْنِ لَا يَتِمُّ وَلَا تَحْصُلُ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِتَوَلِّي أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ لَهُ مَعَ اشْتِرَاطِ رِضَاهَا وَإِذْنِهَا بِهِ صَرَاحَةً فِي الثَّيِّبِ وَسُكُوتًا إِقْرَارِيًّا فِي الْبِكْرِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْحَيَاءُ.

وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْأَمَةَ وَالْعَبْدَ فِي الْآيَةِ بِالرَّقِيقِ; أَيْ: إِنَّ الْأَمَةَ الْمَمْلُوكَةَ الْمُؤْمِنَةَ خَيْرٌ مِنَ الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ جِمَالُهَا، وَكَذَلِكَ الْقِنُّ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنَ الْحُرِّ الْمُشْرِكِ وَإِنْ كَانَ مُعْجِبًا، وَتَعَلَّمْ مِنْهُ خَيْرِيَّةَ الْحُرِّ الْمُؤْمِنِ وَالْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ بِالْأَوْلَى، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَمَةُ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ; أَيْ: إِنَّ الْمُؤْمِنَةَ وَالْمُؤْمِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَبْدُ اللهِ يُطِيعُهُ وَيَخْشَاهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ خَيْرًا مِمَّنْ يُشْرِكُ بِهِ، فَكَانَ فِي التَّعْبِيرِ بِالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ إِشْعَارٌ بِعِلَّةِ الْخَيْرِيَّةِ، بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالزَّوْجِيَّةِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ الْحِسِّيَّةِ

فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا تَعَاقُدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ وَالِاتِّحَادِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْمَرْأَةِ مَحَلَّ ثِقَةِ الرَّجُلِ يَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>