للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَمْ يَتَّخِذُوا مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ أَنْفُسَهَا شُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ، بَلِ اتَّخَذُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لَهُمْ لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَجُعِلَ أَصْلَ دِينِهِمْ، وَأَسَاسَ ارْتِقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَقَدِ اغْتَرُّوا بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ، وَجَعَلُوا تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِغَيْرِ اسْمِهِ إِخْرَاجًا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَهُمْ قَدْ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُسَمُّوا عَمَلَهُمْ عِبَادَةً، بَلْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظًا آخَرَ كَالِاسْتِشْفَاعِ وَالتَّوَسُّلِ، وَاتَّخَذُوا غَيْرَ اللهِ إِلَهًا وَرَبًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ بِذَلِكَ، بَلْ سَمَّوْهُ شَفِيعًا وَوَسِيلَةً، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ اتِّخَاذَهُ إِلَهًا أَوْ رَبًّا هُوَ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ، أَوِ اعْتِقَادًا أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ وَالرَّازِقُ وَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ اسْتِقْلَالًا، وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى عَقَائِدِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَوَجَدُوهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (١٠: ١٨) مَعَ قَوْلِهِ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٤٣: ٨٧) فَإِذَا كَانَتْ مُسَاكَنَةُ الْمُشْرِكِينَ وَمُعَاشَرَتُهُمْ - مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالنُّفُورِ - قَدْ أَفْسَدَتْ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ الْأُولَى، فَمَا بَالُكَ بِتَأْثِيرِ اتِّخَاذِهِمْ أَزْوَاجًا، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى كَمَالِ السُّكُونِ إِلَيْهِمْ وَالْمَوَدَّةِ لَهُمْ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ؟ أَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَعْوَةً إِلَى النَّارِ، وَسَبَبًا لِلشَّقَاءِ وَالْبَوَارِ؟

هَذِهِ دَعْوَةُ الزَّوْجِ الْمُشْرِكِ بِطَبِيعَةِ دِينِهِ (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ دِينُهُ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يُنْقِذُ الْعُقُولَ مِنْ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ وَمِنْهَا إِعْطَاءُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ شُعْبًا مِنْ خَصَائِصِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَبِإِفْرَادِ اللهِ سُبْحَانَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ إِذَا أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ كَسَبَ خَطِيئَةً; لِأَنَّ خَطِيئَتَهُ لَا تُحِيطُ بِرُوحِهِ وَلَا تَرِينَ عَلَى قَلْبِهِ فَتَجْعَلُهُ شِرِّيرًا; لِأَنَّ اللهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٧: ٢٠١) فَحَاصِلُ مَعْنَى (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ)

هُوَ أَنَّ دَعْوَةَ اللهِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، فَهِيَ مُنَاقِضَةٌ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الْمُوَصِّلِ إِلَى النَّارِ بِسُوءِ اخْتِيَارِ أَصْحَابِهِ لَهُ، فَفِيهِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَنَّهُمَا عَلَى غَايَةِ التَّبَايُنِ، وَفِيهِ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ هُوَ مِنْ سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ وَقُبْحِ تَصَرُّفِهِمْ فِي كَسْبِهِمْ، وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ لَمْ يَكُنْ بِوَضْعِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ الدِّينُ الَّذِي هُوَ وَضْعُ اللهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رُسُلُهُ بِإِذْنِهِ، وَهَدَى إِلَيْهِ خَلْقَهُ.

وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَجْهًا آخَرَ فِي هَذَا؛ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ ((اللهُ)) هُوَ مَا يَعْتَقِدُهُ فِيهِ - سُبْحَانَهُ - الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا لَا كُفْءَ لَهُ وَلَا مُسَاعِدَ وَلَا وَزِيرَ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ يَحْمِلُهُ عَلَى نَفْعِهِمْ أَوْ ضُرِّهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ فَاعِلٌ بِإِرَادَتِهِ الْقَدِيمَةِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الْقَدِيمِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْحَوَادِثِ فِيهِمَا وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى; فَهَذَا الِاعْتِقَادُ

<<  <  ج: ص:  >  >>