للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ وَعُهِدْنَ أَنْ يَكُنَّ مُطَلَّقَاتٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهُنَّ الْحَرَائِرُ ذَوَاتُ الْحَيْضِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، فَلَا يَأْتِي هُنَا مَا يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي كَلِمَةِ: الْمُطَلَّقَاتُ هَلِ اللَّامُ فِيهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ أَمْ لِلْجِنْسِ؟ وَهَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ وَصْلَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَمْنَعُ كُلَّ ذَلِكَ، كَمَا يَمْنَعُهُ التَّرَبُّصُ بِالزَّوَاجِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْبَحْثُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا حُكْمُ مَنْ لَسْنَ كَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ كَالْيَائِسَةِ وَالَّتِي لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْحَيْضِ فَمَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ.

وَهُنَّ كَأَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِي مَفْهُومِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَإِنَّ الْيَائِسَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَلَّا تُطَلَّقَ لِأَنَّ مَنْ أَمْضَى زَمَنَ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ امْرَأَةٍ حَتَّى يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ وَالْفِطْرَةِ وَمِنْ أَدَبِ الشَّرْعِ وَالدِّينِ أَنْ يَحْفَظَ عَهْدَهَا وَيَرْعَى وُدَّهَا بِإِبْقَائِهَا عَلَى عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ السُّفَهَاءِ لَا يَحْتَرِمُونَ تِلْكَ الْعِشْرَةَ الطَّوِيلَةَ، وَلَا يُرَاعُونَ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ الْغَلِيظَ فَيُقْدِمُوا عَلَى طَلَاقِ الْيَائِسَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْيَائِسَةَ إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا تَكَادُ تَتَزَوَّجُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَاسْتِقَامَةِ الطَّبْعِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَالَّتِي لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْمَحِيضِ قَلَّمَا تَكُونُ زَوْجًا، وَمَنْ عَقَدَ عَلَى مِثْلِهَا كَانَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا عَظِيمَةً فَيَنْدُرُ أَنْ يَتَحَوَّلَ فَيُطَلِّقَ، وَحَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَتَبَادَرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ لَفْظِ الْمُطَلَّقَاتِ يُفِيدُ أَنَّهُنَّ الزَّوْجَاتُ الْمَعْهُودَاتُ الْمُسْتَعِدَّاتُ لِلْحَمْلِ وَالنَّسْلِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصِدُ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ فَيُنْتَظَرُ أَنْ يَرْغَبَ النَّاسُ فِي التَّزَوُّجِ بِهِنَّ.

وَمَعْنَى التَّرَبُّصِ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ هُوَ أَلَّا تَتَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةُ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَهِيَ جُمَعُ قُرْءٍ - بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِهَا - وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى حَيْضِ الْمَرْأَةِ وَعَلَى طُهْرِهَا مِنْهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الِانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ لِلطَّاهِرِ الَّتِي لَمْ تَرَ الدَّمَ ذَاتُ قُرْءٍ أَوْ قُرُوءٍ، وَلَا لِلْحَائِضِ الَّتِي اسْتَمَرَّ لَهَا الدَّمُ، فَلَمَّا كَانَ الْقُرْءُ وَسَطًا بَيْنَ الدَّمِ وَالطُّهْرِ أَوْ عِبَارَةً عَنِ الصِّلَةِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَبَّرَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَنْ أَحَدِهِمَا وَقَوْمٌ عَنِ الْآخَرِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ شَوَاهِدُ فِي اللُّغَةِ،

أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي إِيرَادِهَا وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَآلُ الْبَيْتِ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ، وَأَدِلَّةُ الْأَوَّلِينَ أَقْوَى.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْخَطْبُ فِي الْخِلَافِ سَهْلٌ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّرَبُّصِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنَ الزَّوْجِ السَّابِقِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَمَا يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْحَيْضُ إِلَى آخِرِ الْحَمْلِ، فَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مُوَافِقٌ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأُورِدَ الْحُكْمُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِنْشَاءِ - كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ كَذَا - لِتَأْكِيدِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّرَبُّصَ وَاقِعٌ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ، فَعِنْدَمَا يُقَالُ الْمُطَلَّقَاتُ يَلْتَفِتُ ذِهْنُ السَّامِعِ وَيَكُونُ مُتَهَيِّئًا لِسَمَاعِ مَا يُقَالُ عَنْهُنَّ، فَإِذَا قِيلَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>