(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) إِلَخْ - وَفِيهِ الْإِسْنَادُ وَالْحُكْمُ - يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا مُؤَكَّدًا كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنَا أَمَرْنَاهُنَّ بِذَلِكَ وَفَرَضْنَاهُ عَلَيْهِنَّ فَامْتَثَلْنَ الْأَمْرَ وَجَرَيْنَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِمْرَارِ حَتَّى صَارَ شَأْنًا مِنْ شُئُونِهِنَّ اللَّازِمَةِ لَهُنَّ لَا يَنْصَرِفْنَ عَنْهُ، بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ مُخَالَفَتُهُنَّ لَهُ وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِصِيغَتِهِ مَا يُفِيدُ هَذَا التَّأْكِيدَ وَالِاهْتِمَامَ; لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَمْتَثِلُ وَقَدْ يُخَالِفُ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ التَّعْبِيرِ مَعْهُودٌ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ وَالِاهْتِمَامِ يَقَعُ فِي الْكِتَابِ مَوَاقِعَهُ لَا يَعْدُوهَا، وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ طَعِمَ الْبَلَاغَةَ وَذَاقَهَا.
وَفِي التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) مِنَ الْإِبْدَاعِ فِي الْإِشَارَةِ، وَالنَّزَاهَةِ فِي الْعِبَارَةِ، مَا عُهِدَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَبْلُغْ مُرَاعَاةَ مِثْلِهِ إِنْسَانٌ، فَالْكَلَامُ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَهُنَّ مُعَرَّضَاتٌ لِلزَّوَاجِ، وَخُلُوٍّ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَالْأَنْسَبُ فِيهِ تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِمَا يَتَشَوَّقْنَ إِلَيْهِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالْكِنَايَةِ عَمَّا يَرْغَبْنَ فِيهِ، عَلَى إِقْرَارِهِنَّ عَلَيْهِ وَعَدَمِ إِيئَاسِهِنَّ مِنْهُ، مَعَ اجْتِنَابِ إِخْجَالِهِنَّ، وَتَوَقِّي تَنْفِيرِهِنَّ أَوِ التَّنْفِيرِ مِنْهُنَّ، وَقَدْ جَمَعَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ، الَّذِي هُوَ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِعْجَازِ، فَأَفَادَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَمْلِكْنَ رَغْبَتَهُنَّ، وَيَكْفُفْنَ جِمَاحَ أَنْفُسِهِنَّ، إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ الْمَمْدُودَةِ، وَالْعِدَّةِ الْمَعْدُودَةِ، وَلَكِنْ
بِطْرِيقِ الرَّمْزِ وَالتَّلْوِيحِ لَا بِطْرِيقِ الْإِبَانَةِ وَالتَّصْرِيحِ، فَإِنَّ التَّرَبُّصَ فِي حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِ مَعْنَاهُ التَّرَيُّثُ وَالِانْتِظَارُ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ يُتَرَيَّثُ عَنْهُ، وَيُنْتَظَرُ زَوَالُ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَهُ، وَلَوْلَا كَلِمَةُ (بِأَنْفُسِهِنَّ) لَمَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الدَّقِيقَةَ، وَالْكِنَايَاتِ الرَّشِيقَةَ، وَمَا كَانَ لِيَخْطِرَ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ يُرِيدُ إِفَادَةَ حُكْمِ الْعِدَّةِ أَنْ يَزِيدَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى قَوْلِهِ: " يَتَرَبَّصْنَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ " وَلَوْ لَمْ تُزَدْ لَكَانَ الْحُكْمُ عَارِيًا عَنْ تَأْدِيبِ النَّفْسِ وَالْحُكْمِ عَلَى شُعُورِهَا وَوِجْدَانِهَا، وَلَعَلَّ الْإِرْشَادَ إِلَى مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُ النِّسَاءِ مِنْ تِلْكَ النَّزْعَةِ فِي ضِمْنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُنَّ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِنَّ امْتِلَاكَهَا وَالتَّرَبُّصَ بِهَا اخْتِيَارًا، هُوَ أَشَدُّ فِعْلًا فِي أَنْفُسِهِنَّ وَأَقْوَى إِلْزَامًا لَهُنَّ أَنْ يَكُنَّ كَذَلِكَ طَائِعَاتٍ مُخْتَارَاتٍ، كَمَا أَنَّ فِيهِ إِكْرَامًا لَهُنَّ وَلُطْفًا بِهِنَّ، إِذْ لَمْ يُؤْمَرْنَ أَمْرًا صَرِيحًا وَهَذَا مِنَ الدَّقَائِقِ الَّتِي نَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ هَدَانَا إِلَى فَهْمِهَا، فَأَنَّى لِأَمْثَالِنَا مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا؟
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ النُّكْتَةِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَعْنَى التَّرَبُّصِ بِالْأَنْفُسِ هُنَا ضَبْطُهَا وَمَنْعُهَا أَنْ تَقَعَ فِي غَمْرَةِ الشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ النِّسَاءَ أَشَدُّ شَهْوَةً مِنَ الرِّجَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ هَذِهِ الشِّدَّةَ وَالزِّيَادَةَ بِأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ حَدَّهَا وَعَدَّهَا عَدًّا، وَهَذَا مِنْ نَبْذِ الْأَقْوَالِ وَطَرْحِهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ الرِّجَالَ كَانُوا وَمَا زَالُوا هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ النِّسَاءَ وَيَرْغَبُونَ فِيهِنَّ، ثُمَّ يَظْلِمُونَهُنَّ حَتَّى بِالتَّحَكُّمِ فِي طَبَائِعِهِنَّ وَالْحُكْمِ عَلَى شُعُورِهِنَّ، وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّقْلِيدِ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute