وَمَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ بِنْتِهِ وَرَبِيبِهِ وَصِهْرِهِ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) هُوَ مَا تَقْضِي بِهِ فِطْرَةُ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَوْزِيعُ الْأَعْمَالِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، عَلَى الْمَرْأَةِ تَدْبِيرُ الْمَنْزِلِ وَالْقِيَامُ بِالْأَعْمَالِ فِيهِ، وَعَلَى الرَّجُلِ السَّعْيُ وَالْكَسْبُ خَارِجَهُ. وَهَذَا هُوَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي اسْتِعَانَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْخَدَمِ وَالْأُجَرَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلَا مُسَاعَدَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فِي عَمَلِهِ أَحْيَانًا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ وَالتَّقْسِيمُ الْفِطْرِيُّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَةُ النَّاسِ وَهُمْ لَا يَسْتَغْنُونَ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَنِ التَّعَاوُنِ (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦) (وَتُعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ) (٥: ٢) .
وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَمَا بَيَّنَهُ بِهِ فِي الْإِنْصَافِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْعُرْفِ لَا يَعْدُو مَا فِي الْآيَةِ قَيْدَ شَعْرَةٍ. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَسَافَةَ الْبُعْدِ بَيْنَ مَا يَعْمَلُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ، فَانْظُرْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِنِسَائِهِمْ تَجِدُهُمْ يَظْلِمُونَهُنَّ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ لَا يَصُدُّ أَحَدُهُمْ عَنْ ظُلْمِ امْرَأَتِهِ إِلَّا الْعَجْزُ، وَيُحَمِّلُونَهُنَّ مَا لَا يُحَمَّلْنَهُ إِلَّا بِالتَّكَلُّفِ وَالْجَهْدِ، وَيُكْثِرُونَ الشَّكْوَى مِنْ تَقْصِيرِهِنَّ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ فِيمَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ لَيَقُولُنَّ كَمَا يَقُولُ أَكْثَرُ فُقَهَائِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ لَنَا عَلَيْهِنَّ خِدْمَةٌ، وَلَا طَبْخٌ، وَلَا غَسْلٌ، وَلَا كَنْسٌ وَلَا فَرْشٌ، وَلَا إِرْضَاعُ طِفْلٍ، وَلَا تَرْبِيَةُ
وَلَدٍ، وَلَا إِشْرَافٌ عَلَى الْخَدَمِ الَّذِينَ نَسْتَأْجِرُهُمْ لِذَلِكَ، إِنْ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ إِلَّا الْمُكْثُ فِي الْبَيْتِ وَالتَّمْكِينُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهَذَا الْأَمْرَانِ عَدَمِيَّانِ; أَيْ: عَدَمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَعَدَمُ الْمُعَارَضَةِ بِالِاسْتِمْتَاعِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ لِلرِّجَالِ عَمَلٌ قَطُّ، وَلَا لِلْأَوْلَادِ مَعَ وُجُودِ آبَائِهِمْ أَيْضًا. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي إِعْفَائِهِنَّ مِنَ التَّكَالِيفِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِنَّ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، يُقَابِلُهَا الْمُبَالَغَةُ فِي وَضْعِ التَّكَالِيفِ عَلَيْهِنَّ بِالْفِعْلِ، وَلَكِنَّ الْجَاهِلِينَ بِالْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ يَتَّهِمُونَ رِجَالَهَا بِهَضْمِ حُقُوقِ النِّسَاءِ، وَمَا هُوَ إِلَّا غَلَبَةُ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ مَعَ عُمُومِ الْجَهْلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فَهُوَ يُوجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْئًا وَعَلَى الرِّجَالِ أَشْيَاءَ; ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ هِيَ دَرَجَةُ الرِّيَاسَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُفَسَّرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (٤: ٣٤) فَالْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ حَيَاةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ رَئِيسٍ; لِأَنَّ الْمُجْتَمِعِينَ لَا بُدَّ أَنْ تَخْتَلِفَ آرَاؤُهُمْ وَرَغَبَاتُهُمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ يُرْجَعُ إِلَى رَأْيِهِ فِي الْخِلَافِ; لِئَلَّا يَعْمَلَ كُلٌّ عَلَى ضِدِّ الْآخَرِ فَتَنْفَصِمَ عُرْوَةُ الْوَحْدَةِ الْجَامِعَةِ، وَيَخْتَلَّ النِّظَامُ، وَالرَّجُلُ أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّنْفِيذِ بِقُوَّتِهِ وَمَالِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ هُوَ الْمُطَالَبُ شَرْعًا بِحِمَايَةِ الْمَرْأَةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ هِيَ مُطَالَبَةً بِطَاعَتِهِ فِي الْمَعْرُوفِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute