وَأَوْضَحَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ: ((وَمَا كَانَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَمْلِكِ الْمُكَلَّفُ إِيقَاعَ مَرَّاتِهِ كُلِّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَاللِّعَانِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ أَرْبَعَ شَهَادَتٍ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ حَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ وَقَالَ: أُقْسِمُ بِاللهِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ هَذَا قَاتِلُهُ: كَانَ
ذَلِكَ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا: أَنَا أُقِرُّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنِّي زَنَيْتُ: كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمَنْ يَعْتَبِرُ الْأَرْبَعَ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا إِقْرَارًا وَاحِدًا)) ثُمَّ ذَكَرَ أَحَادِيثَ أُخْرَى كَالْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً إِلَّا وَاحِدَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْقُضْهُ إِجْمَاعٌ بَعْدَهُ، وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ تَابِعِيهِمْ، وَأَنَّ الْفَتْوَى بِذَلِكَ تَتَابَعَتْ فِي كُلِّ عَصْرٍ حَتَّى كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَنْ أَفْتَى بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ عِنْدَمَا ذَكَرَ أَتْبَاعَ تَابِعِي التَّابِعِينَ قَالَ: ((فَأَفْتَى بِهِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو الْمُغَلِّسِ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ حَكَاهُ التِّلْمِسَانِيُّ فِي شَرْحِ تَفْرِيعِ ابْنِ الْحَلَّابِ قَوْلًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ حَكَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْهُ قَالَ: وَكَانَ الْجَدُّ يُفْتِي بِهِ أَحْيَانًا)) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَثْرَمَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَيِّ شَيْءٍ يَدْفَعُهُ؟ فَقَالَ بِمَا رُوِيَ مِنْ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِ - رُوِيَ عَنْهُ فِي الْفَتْوَى رِوَايَتَانِ - ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ الْعَمَلُ بِرِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ دُونَ رَأْيِهِ إِذَا اخْتَلَفَا، وَذَكَرَ لِذَلِكَ شَوَاهِدَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِجَازَةَ عُمَرَ الثَّلَاثَ - لَمَّا تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ - تَأْدِيبٌ لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا شَرَعَهُ اللهُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ كَوْنِهِ يُوقِعُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِيَرْجِعُوا إِلَى السُّنَّةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي تَأْيِيدِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْآنَ تَقْضِي بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ فِرَارًا مِنْ مَفَاسِدِ التَّحْلِيلِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهَا مُخَالَفَةٌ لِدِينِهِمْ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى تَحَامِينَا فِي التَّفْسِيرِ ذِكْرَ الْخِلَافِ مَا وَجَدْنَا مَنْدُوحَةً عَنْهُ; لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إِجْمَاعِيَّةٌ فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَمَا تَمَّ مِنْ إِجْمَاعٍ إِلَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَادَلَةَ الْمُقَلِّدِينَ أَوْ إِرْجَاعَ الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَطَّلِعُ عَلَى هَذِهِ النُّصُوصِ فِي
كُتُبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُبَالِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute