وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُعَارِضِ لِذَلِكَ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَا عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ، أَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ (التَّتَايُعُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ: الْوُقُوعُ فِي الشَّرِّ مِنْ غَيْرِ تَمَاسُكٍ وَلَا تَوَقُّفٍ) فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ التَّقْيِيدُ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الرِّوَايَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ. وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْجُمْهُورِ إِلَّا الْأَخْذُ بِعَمَلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَحْتَجَّ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ.
قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إِذَا وَقَعَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، هَلْ يَقَعُ جَمِيعُهَا وَيَتْبَعُ الطَّلَاقُ الطَّلَاقَ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَالنَّاصِرُ وَالْإِمَامُ يَحْيَى، حُكِيَ عَنْهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْإِمَامِيَّةِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَتْبَعُ الطَّلَاقَ، بَلْ يَقَعُ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَرِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالْبَاقِرِ وَالنَّاصِرِ وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ مَغِيبٍ فِي كِتَابِ الْوَثَائِقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ، وَنَقَلَ الْفَتْوَى بِذَلِكَ عَنْ مَشَايِخِ قُرْطُبَةَ، كَمُحَمَّدِ بْنِ بَقِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرِهِمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ مَغِيبٍ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْإِمَامِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالطَّلَاقِ الْمُتَتَابِعِ شَيْءٌ، لَا وَاحِدَةٌ وَلَا أَكْثَرُ مِنْهَا، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِر، وَسَائِرُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الطَّلَاقَ الْبِدْعِيَّ لَا يَقَعُ; لِأَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ أَلْفَاظٍ مُتَتَابِعَةٍ مِنْهُ إِلَخْ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ الْأَدِلَّةَ وَعَرَضَهَا عَلَى مِيزَانِ التَّعَادُلِ وَالتَّرْجِيحِ، وَرَجَّحَ وُقُوعَ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ أَيْ لِلشَّوْكَانِيِّ رِسَالَةٌ خَاصَّةٌ فِي تَفْنِيدِ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ وَأَجْوِبَتِهِمْ عَنِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مُؤَلَّفٌ خَاصٌّ فِيهَا.
وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ فِيهَا وَالدَّلَائِلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute