للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ بِمَا كَانَ مِنْ آبَائِهِمْ فِي زَمَنِ مُوسَى وَمَا بَعْدَهُ مُسْنَدًا إِلَيْهِمْ. وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْخِطَابِ الْعَامِّ هُنَا أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ بِوُقُوعِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَنْهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا سَكَتُوا عَلَى الْمُنْكَرِ وَرَضُوا بِهِ يَأْثَمُونَ، وَالسِّرُّ فِي تَكَافُلِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْأَفْرَادَ إِذَا وُكِلُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَثِيرًا مَا يُرَجِّحُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ مَعَ عَدَمِ النَّكِيرِ، فَيَكْثُرُ الشَّرُّ وَالْمُنْكَرُ فِي الْأُمَّةِ فَتَهْلِكُ، فَفِي التَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ دِفَاعٌ عَنِ الْأُمَّةِ، وَلِكُلِّ مُكَلَّفٍ حَقٌّ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ الْبَلَاءَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّهُ يُصِيبُهُ سَهْمٌ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (٥: ٧٨، ٧٩) .

ثُمَّ قَالَ: (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: إِذَا تَرَاضَى مُرِيدُو التَّزَوُّجِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، بِأَنْ رَضِيَ كُلٌّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْآخَرِ زَوْجًا. وَقَوْلُهُ: (بَيْنَهُمْ) يُشْعِرُ بِأَنْ لَا نُكْرَ فِي أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إِلَى نَفْسِهَا وَيَتَّفِقُ مَعَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِهَا وَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ عَضَلُهَا، أَيِ امْتِنَاعُ الْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ التَّرَاضِي فِي الْخِطْبَةِ بِالْمَعْرُوفِ شَرَعًا وَعَادَةً بِأَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ، وَلَا شَيْءٌ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَيُلْحِقُ الْعَارَ بِالْمَرْأَةِ وَأَهْلِهَا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْعَضَلَ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ كَأَنْ تُرِيدَ الشَّرِيفَةُ فِي قَوْمِهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِرَجُلٍ خَسِيسٍ يَلْحَقُهَا مِنْهُ

الْغَضَاضَةُ، وَيَمَسُّ مَا لِقَوْمِهَا مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ عَنْهُ بِالْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ، وَيُجِيزُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَضْلَ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ فَسَادَ الْأَخْلَاقِ الْمُسْقِطِ لِلْكَرَامَةِ، أَوِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَإِرْضَاءَ الشَّهْوَةِ، بَلْ كَانَ مَيْلًا إِلَى رَجُلٍ مُسْتَقِيمٍ يُرْجَى مِنْهُ حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَصَلَاحُ الْمَعِيشَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِ دَفَعُ مَهْرٍ كَثِيرٍ مَعَ نَفَقَاتِ الزَّوَاجِ الْأُخْرَى، فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ الْعَضَلُ بَلْ يَجِبُ تَزْوِيجُهُ.

(وَأَقُولُ) : إِنَّ مَسْأَلَةَ مُرَاعَاةِ الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عُرْفٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَلَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، وَلَا يُوجَدُ سَبَبٌ يَحْمِلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهِ كَالْعِشْقِ، فَكَمْ مِنْ مَلِكٍ أَوْ أَمِيرٍ تَزَوَّجَ رَاقِصَةً أَوْ مُغَنِّيَةً أَوْ مُمَثِّلَةً لِلْقِصَصِ لِعِشْقِهِ لَهَا وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ الْمُلْكِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَإِنَّ مِنَ الْعِشْقِ مَا هُوَ مُسْقِطٌ لِلْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ يَعْذُرُ جُمْهُورُ النَّاسِ مَنِ ابْتُلِيَ بِهِ دُونَ الثَّانِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْرُوفٌ، وَالْمَدَارُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَفَاءَةِ عَلَى الْعُرْفِ الْقَوْمِيِّ وَالْوَطَنِيِّ لَا عَلَى تَقَالِيدِ بُيُوتِ شُرَفَاءِ النَّسَبِ وَالْجَاهِ وَكِبْرِيَائِهِمْ، فَمَا يَعُدُّهُ الْجُمْهُورُ إِهَانَةً لِلْمَرْأَةِ تَكُونُ بِهِ مُضْغَةً فِي الْأَفْوَاهِ وَعَارًا عَلَى بَيْتِهَا فَهُوَ الَّذِي يُبِيحُ لِأَوْلِيَائِهَا الْمَنْعَ مِنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَضَلُ سَبَبًا لِمَفْسَدَةٍ شَرٍّ مِنْهُ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ أَحْكَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>