عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) (٢: ٢٢٨) وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ; أَيْ: إِنَّ شَأْنَ الْوَالِدَاتِ ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَاقِعِ الْمَعْلُومِ لِلنَّاسِ فِي مَقَامِ بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَرَادَ أَنْ يُقَوِّيَ بِهِ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَةِ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَتْ مُرْضِعًا بِأَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ ثَدْيِهَا كَمَا يُعْهَدُ مِنْ بَعْضِ الْأَطْفَالِ، أَوْ كَانَ الْوَالِدُ عَاجِزًا عَنِ اسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ تُرْضِعُهُ، أَوْ قَدَرَ وَلَمْ يَجِدِ الظِّئْرَ، عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَرَوْا جَعْلَ الْخَبَرِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ مَانِعًا مِنْ حُكْمِهِمْ هَذَا، فَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى النَّدْبِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، قَالُوا: لِأَنَّ لَبَنَ الْأُمِّ أَنْفَعُ لِلْوَلَدِ مِنْ لَبَنِ الظِّئْرِ، وَخَاصَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الظِّئْرِ فِي سِنِّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا; فَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الْأُمِّ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ; يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبُ جَوَازَ اسْتِنَابَةِ الظِّئْرِ عَنْهَا مَعَ أَمْنِ الضَّرَرِ; لِأَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ لِلْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّعَبُّدِ، فَهُوَ كَالنَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ بِشَرْطِهَا، فَإِذَا اتَّفَقَ الْوَالِدَانِ عَلَى اسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ، وَرَأَيَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْوَالِدَةِ فَلَا بَأْسَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْفِصَالِ الْآتِيَةِ.
وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْأُمِّ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا يَجِبُ لَهَا ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَالِدِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَلَأَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلُ مُطَلَّقَتَهُ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ إِنْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ تَمْتَنِعَ هِيَ عَنْ إِرْضَاعِهِ، وَكَانَ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُوَ أَنَّ مِنْ حُقُوقِ الْوَالِدَاتِ أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، وَمَا الْمُطَلَّقَاتُ إِلَّا وَالِدَاتٌ فَيَجِبُ تَمْكِينُهُنَّ مِنْ إِرْضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ الْمُدَّةَ التَّامَّةَ لِلرِّضَاعِ، وَهِيَ كَمَا حَدَّدَهَا فَيُرْضِعْنَهُمْ (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) وَالْحَوْلُ: الْعَامُ وَالسَّنَةُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ حَالَ يَحُولُ إِذَا مَضَى وَإِذَا تَغَيَّرَ وَتَحَوَّلَ، فَالْعَامُ وَالْحَوْلُ يُطْلَقَانِ عَلَى صَيْفَةٍ وَشِتْوَةٍ كَامِلَتَيْنِ، وَأَمَّا السَّنَةُ فَهِيَ تَبْتَدِئُ مِنْ أَيِّ يَوْمٍ عَدَدْتَهُ مِنَ الْعَامِ إِلَى مِثْلِهِ - اهـ مُلَخَّصًا مِنَ الْمِصْبَاحِ. وَقَدْ حُدِّدَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعَةِ التَّامَّةِ بِسَنَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ مُرَاعَاةً لِلْفِطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ضَعْفِ الْأَطْفَالِ فِي أَقَلِّ الْبُيُوتِ أَوِ الْبِيئَاتِ اسْتِعْدَادًا لِلْعِنَايَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، وَاللَّبَنُ هَذَا الْغِذَاءُ الْمُوَافِقُ لِكُلِّ طِفْلٍ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ هِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ الرَّضَاعَةِ فِي النِّكَاحِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ تَرَى الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ تَحْدِيدِ اللهِ سُبْحَانَهُ لَهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ثَلَاثُ سِنِينَ، وَلَكِنَّ الْجَمَاهِيرَ عَلَى أَنَّ مُدَّتَهَا التَّامَّةَ لَا تَزِيدُ عَلَى حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وَقَدْ تَنْقُصُ إِذَا رَأَى الْوَالِدَانِ ذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) أَجَازَ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ يُحَدِّدْ أَقَلَّ الْمُدَّةِ، بَلْ وَكَلَهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْوَالِدَيْنِ الَّذِي تُرَاعَى فِيهِ صِحَّةُ الطِّفْلِ، فَمِنَ الْأَطْفَالِ السَّرِيعُ النُّمُوِّ الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّبَنِ بِالطَّعَامِ اللَّطِيفِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ بِعِدَّةِ أَشْهُرٍ، وَمِنْهُمُ الْقَمِيءُ الْبَطِيءُ النُّمُوِّ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَنْبَطُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute