(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ
شَهْرًا) (٤٦: ١٥) أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ أَكْثَرُ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ طَرْحِ شُهُورِ الْحَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا هُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَقَالُوا: لَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّتَيْنِ - أَكْثَرُ الرَّضَاعَةِ وَأَقَلُّ الْحَمْلِ - هِيَ انْضِبَاطُهُمَا دُونَ مَا يُقَابِلُهُمَا. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّنَا نَطْرَحُ مُدَّةَ الْحَمْلِ الْغَالِبَةَ وَهِيَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ مَجْمُوعِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، فَالْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ إِتْمَامَهَا; وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْوَالِدَيْنِ، فَاللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (يُرْضِعْنَ) أَيْ: أَنَّهُنَّ يُرْضِعْنَ هَذِهِ الْمُدَّةَ لِمَنْ أَرَادَ إِتْمَامَهَا مِنَ الْمَوْلُودِ لَهُمْ وَهُمُ الْآبَاءُ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً، وَسَيَأْتِي تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا) .
(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الْأَبُ، وُوَجْهُ اخْتِيَارِ هَذَا التَّعْبِيرِ عَلَى لَفْظِ الْوَالِدِ وَالْأَبِ هُوَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الْأَوْلَادَ لِآبَائِهِمْ، لَهُمْ يُدْعَوْنَ وَإِلَيْهِمْ يُنْسَبُونَ، وَأَنَّ الْأُمَّهَاتِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَةٌ لَهُمْ كَمَا قَالَ الْمَأْمُونُ:
وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمَأْمُونُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى الْعُرْفِ الْجَاهِلِيِّ، وَهِدَايَةُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْوَلَدَ لِوَالِدَيْهِ يَتَقَاسَمَانِ تَرْبِيَتَهُ بِحَسَبِ فِطْرَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَحُقُوقُ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُ حَظِّ كَلٍّ مِنْهُمَا فِيهَا، فَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْلُودِ لَهُ مُقَابِلُ التَّعْبِيرِ بِالْوَالِدَاتِ، وَاخْتِيرَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِلَّةِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْوَالِدَاتِ قَدْ حَمَلْنَ وَوَلَدْنَ لَكَ أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَهَذَا الْوَلَدُ الَّذِي يُرْضِعْنَهُ يُنْسَبُ إِلَيْكَ، وَيَحْفَظُ سِلْسِلَةَ نَسَبِكَ مِنْ دُونِهِنَّ، فَعَلَيْكَ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِنَّ مَا يَكْفِيهِنَّ حَاجَاتِ الْمَعَاشِ مِنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ لِيَقُمْنَ بِذَلِكَ حَقَّ الْقِيَامِ، فَاخْتِيَارُ لَفْظِ (الْمَوْلُودِ لَهُ) هُنَا عَلَى لَفْظِ الْأَبِ وَالْوَالِدِ هُوَ الَّذِي تَقْضِي بِهِ الْبَلَاغَةُ قَضَاءً مُبْرَمًا، وَبِهِ يُسْتَفَادُ مَا لَا يُسْتَفَادُ بِهِمَا، وَأَيْنَ نَجِدُ هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ؟
وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ هَذِهِ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً لَائِقَةً بِحَالِ الْمَرْأَةِ فِي قَوْمِهَا وَصِنْفِهَا، لَا تَلْحَقُهَا غَضَاضَةٌ فِي نَوْعِهَا وَلَا فِي كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا إِلَيْهَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَالِدَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْهُنَّ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ النَّفَقَةِ هُنَا بِالرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ الْوَاجِبَيْنِ لِلْمَرْأَةِ بِمُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ دُونَ الْأُجْرَةِ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ كُلَّ وَالِدَةٍ تَجِبُ لَهَا الْأُجْرَةُ عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهَا; لِأَنَّ الْكَلَامَ بُدِئَ بِلَفْظِ ((الْوَالِدَاتِ)) وَأَمَّا فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ فَقَدْ عَبَّرَ بِلَفْظِ الْأُجْرَةِ إِذْ قَالَ: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (٦٥: ٦) لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، فَلَا إِبْهَامَ فِي اخْتِيَارِ اللَّفْظِ الْأَخِيرِ، وَلَوْ تَوَجَّهَ الذِّهْنُ إِلَى فَهْمِ الْآيَةِ غَيْرَ مُثْقَلٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute